إن مما يؤسف له أن بعض كتاب التاريخ يكتبون عن أحداث تاريخية خارج سياقها التاريخي، فنجدهم يسقطون أحكاماً على تلك الأحداث في زمن مغاير لزمن تلك الأحداث، ويسقطون أحكاماً لا تتسق مع تلك الأحداث في زمانها، مما يجعل تلك الأحكام متحيزة وغير عادلة لمن يعرف ويفهم كيف يقرأ التاريخ.
يقصد بمفهوم السياق التاريخي هو معرفة الظروف الزمانية والمكانية والاقتصادية والحياتية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والبيئة التي كانت سائدة خلال فترة وقوع الحدث التاريخي، وأثرت في مجرى الأحداث، وكانت سبباً في وقوعها بتلك الحيثية.
يعتبر السياق التاريخي أساسياً لفهم الأحداث التاريخية، ومن ثمّة بناء الفهم التاريخي الذي من دونه لا يمكن تفسير الحدث التاريخي، فهو يساعدنا على توجيه التفسيرات والتحليلات الصحيحة للأحداث التاريخية، ومن ثم بناء الأحكام الصحيحة.
لنوضح المقصود بفهم السياق التاريخي، نضرب هذا المثال (التخيلي وغير الحقيقي):
دولة فقيرة، وفي بداية تأسيسها، وانعتاقها من الاستعمار، تمتلك ثروات طبيعية، ولكنها لا تستطيع استخراجها نظراً لظروفها الاقتصادية، وضعف إمكاناتها، فوقعت حكومتها اتفاقية مع شركة أجنبية وفق شروط معينة، هذه الشروط تعتبر مجحفة لتلك الدولة، ولكنها هي أقصى ما استطاعت الحصول عليه، بعد مفاوضات مع عدة شركات في هذا المجال.
يأتي في الوقت الحالي من يتهم تلك الحكومة بأنها خانت البلد، وباعت ثرواته!
فهم السياق التاريخي، هو معرفة الظروف المحيطة بتلك الاتفاقية وقت توقيعها، لمعرفة هل كان القرار صحيحاً في وقته أم لا؟ وليس إصدار حكم في الوقت الحالي التي تغيرت فيه الظروف.
يذكر شريف بن زينب في دراسة له بعنوان: (أبعاد فلسفة التاريخ عند جامباتيستا فيكو) ما نصه: “لا تتوقف وظيفة فلسفة التاريخ عند الوصف أو تحليل مضامين الأحداث والوقائع التاريخية كما هي أو كما حدثت بالفعل، وإنما هو علم بالقوانين والمبادئ التي تحكم التاريخ في صيرورته، لذلك فإن فلسفة التاريخ عبارة عن النظر الى الوقائع التاريخية بنظرة فلسفية نقدية استقرائية، مع محاولة الوقوف العوامل الأساسية التي تتحكم في سير الوقائع التاريخية، وإبراز العوامل الأساسية الكامنة وراء حركة التاريخ، إذ لا تتقصى الفلسفة أحداث التاريخ في ضوء ما حدث وما وقع من أجل تبرير طبيعة الحدث التاريخي وفقط، وإنما تبحث وتتساءل في القوانين والعلل القصوى التي تحدد مسار التاريخ.
إن دراسة التاريخ والاهتمام به أمر لابد منه، ولكن ما لا يجب إغفاله أن دراسة التاريخ من الناحية المنهجية تبقى عديمة الجدوى إذا لم تطعم هذه الدراسة بنظرية فلسفية تضبطها منهجياً ومعرفياً حتى تحمل النتائج صبغة منطقية، فالفلسفة هي التي تنسق التاريخ وتبنيه وتعطيه اللحمة التي يحتاجها”.
أي حدث يجب قراءته ودراسته وفق ظروفه، وفي سياقه التاريخي، وبمنهجية فلسفية بحثاً عن الحقيقة لا عن ما يمكن فيه نقد الأخرين والحكم عليهم، إن كان الهدف فهم التاريخ، فالعدالة واحدة من القيم الأخلاقية الإسلامية والإنسانية، وعلى من يتقي الله أن يتجنب ظلم الآخرين، ففي يوم القيامة سيحاسب الناس على أقوالهم وأفعالهم، وسيُجازى كل شخص بما قاله، وعلى كل حكم أصدره، فمن الضروري على الفرد أن يكون حذراً في كلماته، ويسعى دائمًا للعدل في حكمه على الآخرين، قال الله تعالي: {تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة، آية 134).