يقصد بنقد المرويات التاريخية هو عملية تحليلها وتقييمها بغرض فحص مدى صدقها وموثوقيتها، وهو عملية بحثية وتحليلية تهدف إلى إثراء فهمنا للتاريخ.
إن مما يؤسف له أن نجد بعض من يكتب في التاريخ قد ضمن كتاباته قصصاً ومرويات بلا سند ولا وثائق ولا مصادر، ولا نعلم هل هي من نسيج أفكاره، أم أنه ينقلها عن حسن نية، ولكنها بلا شك تشويه للتاريخ، ونشر لمعلومات لا تثبت لا نقلاً ولا عقلاً.
يقول وحيد الدين خان في كتابه: (الإسلام مبدع العصر الحديث) من ترجمة مبارك عامر بن قنه، ما نصه: “من أصعب القضايا هو الكتابة التاريخية لأنها تتطلب تجرد نفسي شديد، وبذل جهد كبير في الحصول على المعلومة ومعرفة الحقيقة. وهؤلاء الذين يكتبون بصورة حاقدة أو من منطلق الكره والعداء وكتمان الحقائق هم الذين يسيئون للتاريخ، فيقلبون الحقائق من أجل تحقيق أهدافهم أو أهداف من يبعثهم على الكتابة التاريخية … وهذا التشويه المتعمد هو لصرف الناس عن معرفة الحقيقة”. (ص 14)
هي القصص والتراث المروي الذي يتم تمريره من جيل إلى جيل في المجتمعات، عن طريق النقل الشفوي، والكتابي فيما بعد، مثل القصص عن الأحداث التاريخية القديمة، والحكايات من الماضي.
فهمنا المقصود بالمرويات التاريخية، ولكن ما هي التصنيفات؟
التصنيفات جمع تصنيف، وهو مصطلح محلي نجدي، ومصدره اللغوي صَنَّفَ، أي رتب ونظم، واشتق أهل نجد من هذا المصطلح معنى إيراد شخص ما لقصة مختلقة وغير حقيقية، متضمنة أحداث مرتبة ومنظمة، ومدعمة بأسماء ربما بعضها حقيقي، وزمن لم يحضره المستمع ولا أجداده القريبين حتى لا يمكن التحقق منها بالسؤال، وربما يدعمها الراوي بأبيات شعرية أبدعها لحبك القصة.
فيقال على سبيل المثال:
عندما يروي أحدهم قصة لا يمكن تصديقها: “الظاهر هذي من تصنيفك”.
كما يقال عندما يراد تكذيب كلام شخص معين: “فلان كل حكيه من تصنيفه”.
وعندما يراد تكذيب رواية معينة: “ترى عاد مهوب كلها صدق، أغلبها تصنيف”.
فالتصنيف عند أهل نجد يقصد به القصة المختلقة، والخيالية، والتي نسجت أحداثها من قبل الراوي، حيث لا أصل لها ولا إسناد، وتزداد مشكلة التصنيفات (القصص المختلقة) مع مرور الزمن، وذلك عندما يتناقلها الناس جيل بعد جيل، أو تنقل في الكتب والمقالات، أو شبكات التواصل الاجتماعي في العصر الحديث، لتصبح مع مرور الزمن مثل المرويات التاريخية.
والمصيبة الأعظم عندما يرويها أحدهم في زمن قديم لمؤرخ غير دقيق (حاطب ليل)، وينقلها في تاريخه.
تعتمد موثوقية المرويات التاريخية على عدة عوامل، منها:
– مصداقية الشاهد (الشخص الذي روى الحدث).
– منطقية الأحداث وعقلانيتها.
– توافقها مع السياق التاريخي.
– ما يراد إيصاله منها، والأهداف التي تسعى لاثباتها.
– طرق وصولها لنا، فإن كانت أحادية فهي أقل مصداقية.
يجب أن يتم التعامل مع المرويات التاريخية بحذر ونقد شديدين، حيث قد يحتوي بعضها أو معظمها على أحداث غير حقيقية، أو على تشويه وتحريف للحقائق، أو تكون غير دقيقة بسبب العوامل الزمنية والتأثيرات الشخصية للناقلين.
يقول فاضل الربيعي في كتابه: (أبطال بلا تاريخ: الميثولوجيا الإغريقية والأساطير العربية) ما نصه: “الأساطير تتضمن سلسلة من الرسائل الملغزة المُرسلة من الأسلاف، والتي يجب تفكيكها وإمعان النظر ملياً في أبجديتها الخاصة، لأجل قراءة بنّاءة وصحيحة، هذه القراءة التي سوف تقودنا حتماً إلى التمييز بدقة، داخل المرويات التاريخية للإخباريين العرب والمسلمين؛ الأبطال المُختلفين من الأبطال التاريخيين الحقيقيين؛ أي : بين ما هو خبر تاريخي صحيح وما هو أسطورة”. (ص 8)
كما يقول في (ص 27): “إن الأمر المحيّر حقاً في هذه المرويات التاريخية – حيث يمتزج الخطاب الأسطوري بالخبر التاريخي على نحو يصعب تفكيكه – يكمن في الآتي: أين الحدود التي تكف فيها الأسطورة عن أنْ تكون متضمنة للتاريخ؟، وأين يكف التاريخ عن أنْ يكون أسطورياً أو خيالياً؟.
لا يمكن الاعتماد على المرويات التاريخية كمستند تاريخي، كما لا يصح الاستدلال بها، أو التعويل عليها، ولا سوقها كحجة، ولكن يمكن إيرادها في سياق الاستئناس بها، مع ذكر أنها من المرويات، لا أن تعرض كما لوكانت من الحقائق.
في التاريخ تعتبر الوثائق بمختلف أنواعها: البيع والشراء، الهبات، الوصايا، الشهادات (وثيقة تثبت شهادة مجموعة من الأشخاص على أمر معين)، الأحكام القضائية، … الخ، من أكثر المصادر التاريخية موثوقية، وتزداد موثيقيتها عندما لا تكون المعلومة مقصودة بذاتها، وإنما وردت عرضية، واستنبطت منها المعلومة استباطاً.
يذكر قاسم الشواف، في كتابه: (فلسطين: التاريخ القديم الحقيقي منذ ما قبل التاريخ حتى الخلافة العباسية) ما نصه: “التاريخ الحقيقي لكل بلد أو أمة، هو الذي تدعمه الحقائق التي تبنيها الوثائق التاريخية القديمة، التي لا لبس فيها”. (ص 13)
ببساطة: من أين أتيت بهذه المعلومة؟
فلو قال لنا شخص ما:
روضة سدير كان أسمها قديماً روضة الحازمي.
نقول له ما دليلك؟
فيقول:
ذكر ذلك صاحب كتاب (صفة جزيرة العرب) للحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني المولود سنة 280هـ، والمتوفى سنة 344هـ تقريباً ما نصه:
“ثم تصعد في بطن الفقي فترد الحايط حايط بني غُبر قرية عظيمة فيها سوق وكذلك جماز سوق في قرية عظيمة ايضاً ثم تخرج منها إلى الروضة روضة الحازمي وبها نخيل وحصن منيع ثم تمضي إلى قارة الحازمي وهي دون قارة العنبر وأنت في النخيل والزروع والابار طول ذلك ثم توم ثم أشي ثم الخيس)ثم تنقطع الفقي”.
وهذا مصدري من مخطوطة الكتاب:
عندها نقول له:
بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً.
أما إن قال:
كان اسم روضة سدير قديماً “روضة مجلي” (هذا مثال).
نقول له ما دليلك؟
فقال:
قد سمعتها من أجدادي، أو أنها من موروثنا، أو أنها متداولة في بلدتنا، أو بيننا.
نقول:
جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك.
لكن كلامك غير مقبول، حتى تثبت لنا ذلك، بوثائق ومصادر تاريخية.
ملاحظة:
في الحقيقة نحن لا نتصور بأي شكل من الأشكال عندما يورد أحدهم قصة، أو حادثة، أو معلومة تاريخية، أن يكون ما أورده هو من عند نفسه، لأننا لم نتعود على ذلك، ولا يخطر على بالنا؛ ولكن كتب التاريخ مليئة بمثل هذه المعلومات التي لا أصل لها، وعندما توضع تحت مجهر البحث والدراسة والتحليل نكتشف أن لا أساس لها، بل تتعارض مع ماهو ثابت بالوثائق والأدلة، كما نجهل كيف دخلت كتب التاريخ والمؤرخين.