صور تخيلية:
الإمام الشهيد عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود رحمه الله
إبراهيم بن محمد بن علي باشا
المؤلف: عبدالله بن محمد ابن خميس
فات مؤرخي حرب الدرعية كثيرٌ من أخبارها وصورها وملابساتها، وما حصل لأهلها مع عدوهم من كرٍّ وفرٍّ، وحرب سجال، وتضحية وفداء؛ إذ إن أقدم من سجل حربها وما وقف عليه من أخبارها هو ابن بشر، وقد جاء رحمه الله متأخرًا، إذ إنه فرغ من تاريخه سنة 1270هـ، بينما سقوط الدرعية قد تم سنة 1233هـ، أي أن تسجيل الأحداث قد تم بعد سبع وثلاثين سنة، وهو في عمر الزمن كثير.
فلا غرابة أن يفوته بعض أخبارها وما تم فيها من ملابسات وأحوال، كما أنه كان يعني بسرد الوقائع والأخبار دون أن يتعرض للتحليل والبسط والنقد، فكم فاته من أخبار وآثار وصور.
وقد حدثني والدي عن جدي الذي أدرك حرب الدرعية، قال:
لما استسلم عبد الله بن سعود للأمر الواقع، وخرج إلى إبراهيم باشا في مخيمه، بعد أن أعذر وبذل كل محاولة لصد هجمات الأعداء المتوالية، ولم يبقَ لديه حيلة ولا وسيلة، وخشي أن يدهم جند العدو البلاد ويستبيحون بيضتها ويعبثون بالمحارم، ولا يرحمون صغيرًا ولا يوقرون كبيرًا؛ قدم نفسه فداءً دون حوزة البلاد وحرمة أهلها، فسلم نفسه لقائد الحملة إبراهيم باشا.
ولما استقر به القرار عنده، قال له إبراهيم باشا:
وهنا يذكر الخبر الذي لم يدونه التاريخ، قال:
إني سائلك عن أشياء ثلاثة، لماذا لم تستعملها، أو لم تستعمل واحدًا منها ضدنا؟ وإذاً لكان بالإمكان صدّنا أو إطالة الحرب بيننا وبينكم، وربما كانت النتيجة فشلنا.
فقال له عبد الله بن سعود: ما هي هذه الأمور الثلاثة؟!
قال الباشا:
أولًا: من المعلوم أن بلادك جبلية، وأنه لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق أودية ومنافذ محدودة، وقومك باديتهم وحاضرتهم أهل كرٍّ وفرٍّ، وقوم لهم ولع بالمطامع والغارات والكسب والنهب…
فلماذا لم تجعل قسمًا كبيرًا منهم يحتلون هذه الجبال وهذه المراصد والمخابئ في بطون وأحضان الجبال، مفرقين على عشرة أشخاص أو أقل أو أكثر، يغيرون على حملات التموين، ويسلبون ما يسلبون منها، ويقتلون من يقتلون، وكل من أخذ شيئًا فهو له؟ ومعلوم أن حملات تمويننا متصلة، وتحمل كافة المؤن والأطعمة والسلاح والذخائر، وهي وإن كانت معها حراسة، إلا أن حراستها لا يمكن أن تصد عن هذه الغارات المتلاحقة، خصوصًا في أوقات الليل. ثم تأذن للبادية بمهاجمة هذه الحملات منذ دخولها بلادك من ميناء ينبع إلى أن تصل الدرعية. إن هذا الأمر من العوائق الكبرى التي نعمل لها ألف حساب في حربنا معكم، فلماذا لم تستغلوها؟!
وثانيًا: لقد حشدنا جميع ذخيرتنا من بارود وجبخان وأسلحة ومتفجرات في مكان واحد، ضيق، بين جبلين؛ لتسهل حمايته وحراسته، وقد قُدِّر وانفجرت هذه الذخيرة كلها، وأتى هذا الانفجار على جميع المخزون من أسلحة وسواها، حتى لقد سُمع صوت الانفجار من مسيرة أيام، وبقينا عُطْلًا من الأسلحة والذخيرة مدة طويلة، فلماذا – وقد رأيتمونا على هذه الحال – لم تُجهزوا علينا دفعة واحدة وتنتقصونا كقنص الجراد؟ إنها فرصة لا تعوض، وأمنية لكم لا مثيل لها، فلماذا انتظرتم والحالة هذه؟!
وثالثًا: إن معسكرنا في أعلى الدرعية أخذ من الجبل الغربي إلى الجبل الشرقي، ولم يُترك منفذٌ للسالكين، وقدّر أن سال وادي حنيفة سيلًا عظيمًا فشطر المعسكر شطرين، وانقطعت الصلة بيننا. فلماذا لم تخرجوا على الشطر الذي يليكم، وتسحقوه وتبيدوه إبادة كاملة، حتى إذا وقف الوادي أجهزتم على الشطر الآخر؟ لقد كانت فرصة لكم سانحة، خدمكم فيها القضاء والقدر، وسهّل لكم ما كان متعذرًا عليكم، فهلا فعلتم؟!
لقد كانت إجابة الأمير عبد الله بن سعود على هذه الأسئلة أن قال:
والله، ما من واحدٍ من هذه الأمور التي وقعت إلا وقد أشار عليّ بها أهل الدرعية وألحّوا، ولكن إذا جاء القدر عمي البصر، وذهب الحذر.
وهذا الخبر الذي سقناه – وإن كان خبرًا خاصًا – إلا أن الدلائل والقرائن والشواهد تفيد بصحته وواقعيته، كما أنه يعطينا دليلًا على أن الأمر قد انتهى إلى وضع لا تفيد معه الملامة، ولا تنقذه الإجراءات المقترحة. فمثلًا: هذه الأمور التي تحدث عنها القائد المصري بكل تجرد وصراحة، لا تعفينا من المسؤولية، ولا تُجردنا من المؤاخذة، لا سيما وقد اعترف الأمير عبد الله بن سعود بما أشار به عليه أهل الدرعية وألحّوا في المشورة؛ فالاحتجاج بالقضاء والقدر في مثل هذا الموقف أمر فيه نظر.
فلو أن الأسباب فُعلت في كل أمرٍ من هذه الأمور، لكان للنتائج وضعٌ آخر غير ما حصل، ولو على الأقل إعفاؤنا من اللوم، بأننا بذلنا ما في وسعنا، ولا يُلام المرء بعد الاجتهاد.
وخبرٌ آخر لم يذكره التاريخ أيضًا، ولكنه متواترٌ على ألسنة بعض الإخباريين؛ ذلك أن عبد الله بن سعود حينما سلّم نفسه للقائد المصري، وُجّه مع صحبه إلى مصر، ووُضع معه حرّاس ومحافظون. ولما جَدَّ بهم الطريق، وهم يسيرون ليلًا، أحاطت بهم جبال شاهقة، وكان من أصحاب عبد الله بن سعود رجل يُدعى “ونيان” (ولعله من آل ونيان الحروب أهل العويند)، وكان متحدثًا قاصًّا، يتحدث أثناء ما هم سُراة.
فقال: كان أناسٌ معتقلون محمولون إلى حكومتهم لتجازيهم، ولما وجدوا أنفسهم بين جبال، وهم يسيرون في الليل، قفزوا من على ظهور مطيّهم، ولاذوا بالجبال، وعبثًا حاول الحراس والمحافظون العثور عليهم، فلاذ هؤلاء بالفرار، ولم يُعرف عنهم بعدُ عينٌ ولا أثر…
ومضى ونيان مسترسلًا في أحاديثه وقصصه، ولما خرجوا من الجبال، تنبّه عبد الله بن سعود لما يقصده ونيان من تنبيهه وتذكيره بالفرار، ولكنه لم يزد على أن قال: “فنت يا ونيان”.
وهكذا نجد أن هذه الأخبار وأمثالها لم يتعرض لها التاريخ، ولم يستقصها المؤرخون، وتبقى دائمًا مشيئة الله، ولله في خلقه شؤون.
المصدر:
ابن خميس، عبدالله. (1984). ما لم يذكره التاريخ عن حرب الدرعية. الدارة، مج 10, ع 1 ، 43 – 45.
تعليق الموقع:
لعله من مجريات الأحداث يبدو أن الإمام الشهيد عبدالله بن سعود – رحمه الله – لم يكن موقفه الرافض لتنفيذ ما أشار به عليه مستشاريه وبعض أهالي الدرعية نابعًا من تهاون أو تسليم بالأمر الواقع، كما قد يُفهم من العبارة: “إذا جاء القدر عمي البصر، وذهب الحذر”. بل إن تحليل موقفه في ضوء معرفته العميقة بطبيعة العدو وسجله الدموي في البلدات النجدية التي سبق أن اجتاحها، يدل على بصيرة نافذة ورؤية استراتيجية بعيدة المدى.
فالإمام رحمه الله، بما أوتي من حنكة وتجربة، قدّر أن تنفيذ تلك المقترحات لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد المعركة، دون أن يثني جيش إبراهيم باشا عن المضي في مشروعه التدميري المعادي للدولة السعودية، بل سيعرض أهالي الدرعية لمجازر مروعة، لا سيما وأنه قد تبيّن له من خلال الوقائع السابقة أن ذلك الجيش لا يتورع عن ارتكاب الفظائع.
لذلك، فضّل الإمام عبدالله بن سعود أن يتحمل وحده مسؤولية القرار، فسلّم نفسه درءًا للدمار عن الدرعية وقتل سكانها، بعد أن أخذ عهدًا من إبراهيم باشا بعدم المساس بالبلدة وأهلها، وهو ما أبدى الباشا قبوله به. إلا أن هذا العهد لم يُحترم، إذ ما لبث إبراهيم باشا أن نكثه، فهدم الدرعية، وقتل من تبقى من سكانها، ونقل عددًا منهم إلى مصر.