نحن عندما ننقاش تاريخ بلدتنا عودة سدير لا نقلل من رأي الأخرين، ولا نصادر فكرهم، ولا نخطئهم، ولا نقلل من شأنهم، بل نريد تحقيق وتمحيص تاريخ بلدتنا، ولا نريد أن ينفتح المجال لكل من أراد أن يلقي معلومة بلا زمام ولا خطام، ودون دعمها بمصدر تاريخي موثوق أو وثيقة تؤكد ما يقوله، وكيف استنتج ما ذكر، حتى يقيّم القراء، والمهتمين بتاريخ بلدة عودة سدير هذه المعلومة.
فالقاء الحديث على عواهنه لا يمكن أن يسكت عنه، فنحن لا نريد غدًا أن يأتي من يقول جدي فلان بن فلان هو من بنى مرقب العودة سنة كذا، وأخر يقول كانت العودة مركزًا تجاريًا تتزود منه قوافل الحجاج أو ممرًا لطريق الحرير أو البخور، وثالث يقول كانت العودة عاصمة الدولة الفلانية في القرن الفلاني، ورابع يقول قصر غيلان بناه الإمبراطور الروماني كومودوس في أواخر القرن الثاني الميلادي على غرار قلعة غيلان في تونس، وخامس يذكر أن مسافر كانت محطة راحة للمسافرين، ونقطة تبادل تجاري بين تجار نجد مع التجار القادمين من العراق والشام واليمن والحجاز، فهي توازي سوق عكاظ وسوق مجنة وسوق ذي المجاز مجتمعة.
إن من يكتب معلومة كما اتفق بلا تفكير ولا روية، واكتفى بما قدح في ذهنه دون ترو وتنوق، لا يصح له أن يعترض عندما يذكر الأخرون قصصًا مماثلة، وأحداثًا مشابهة، ليتحول تاريخ بلدتنا من حقائق مشرفة نفتخر بها أمام الأخرين، لقصص درامية، وخيالات وهمية، وحوادث غير منطقية، وكل ما نخشاه أن يتندر بنا الأخرون، ونصبح مثالًا يضرب عندما تذكر القصص غير الواقعية عن تاريخ نجد، فالشر يعم، والخير يخص.
تم نشر عدة مسميات تاريخية أطلقت على عودة سدير من خلال إشارات في كتب ومقالات وتغريدات، ومن هذه المسميات: الفقي، جماز، النخلين. إلا أن جميع هذه الإشارات لم تنطلق على أساس علمي موثق بمصادر تاريخية يمكن الاعتماد عليها، بل إن معظمها استنتاجات لا تقوم على أرض صلبة من حيث الدلالة والتحليل، وإنما هي اجتهادات، ونحن هنا نناقش هذه الآراء، وندلو بدلونا في هذا الموضوع.
هو اسم وادي سدير سابقًا، والموقع الذي نسب له الوادي حسب ما يرى الأستاذ عبد العزيز الفايز البدراني الدوسري من أهل جلاجل في مقال نشر في جريدة الجزيرة بعنوان: (قارة بني العنبر)، قال في نهايته ما نصه: “فالفقي هي قارة بني العنبر”، وكلا الرأيين – أن الفقي هو العودة أو قارة بني العنبر – لا يقوم على مصدر تاريخي صريح، بل هي وجهات نظر، طرحت دون تحقق من صحتها، فمن الممكن أن يقول أحدهم الفقي هو حوطة سدير، فقد ورد في كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي ما نصه: “الحائطُ: من نواحي اليمامة، قال الحفصي: به كان سوق الفقيّ”، وقال الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب ما نصه: “والفقي لآل حماد من تميم، الحائط لبني تميم”
هو سوق في عودة سدير، وليس اسم لعودة سدير، فقد ذكر الهمداني في كتابه (صفة جزيرة العرب)، ما نصه: “ثم تقفز من العتك في بطن ذي أراط ثم تسند في عارض الفقي فأول قراه جماز”، إلا أنه عقب بعد ذلك فقال: “وكذلك جماز سوق في قرية عظيمة“، وهذا يعني أن جماز جزء من هذه القرية العظيمة التي لم يذكر اسمها، وهذا الوصف الذي أعطاه الهمداني للعودة – القرية العظيمة – يعني أنها أكبر من غيرها، والأصل أن اسمها العودة، والواقع الحالي يؤكد أن جماز اسم يطلق على موقع في عودة سدير وليس عام لها، إلا أن هذا لا ينفي أنه ربما أطلق عليها جماز، فأحيانًا يطلق اسم الجزء على الكل إذا اشتهر، ولكن هذا يحتاج إلى أدلة تثبت ذلك، وليس إشارة يمكن أن تفسر بعدة تفسيرات، والتي أقلها أن هذه القرية العظيمة مكون من عدة أحياء مستوطنة في زمن المؤلف، كل حي منها مستقل بذاته، أحدها جماز، ومجموعها هو القرية العظيمة، ولذا ذكر الهمداني أن أول قراه جماز على اعتبار أن كل موقع من هذه المواقع المستقلة عن الأخر هو بمثابة قرية، وأن أول موقع قابله منها جماز.
هما نخل الفارس ونخل الخريف في العليا علو بلدة عودة سدير، وكانا يسميان النخلين، حسب وثيقة رد محمد بن ربيعة على أحمد بن منقور سنة 1116هـ، وكذلك البيت المنسوب لخريف الخريف -إن صحت نسبته، وصحت قصته- الذي ربما أنه كان يعمل في نخل أهله الخريف في العليا، فقال:
تشطر (تنزح) عن النخلين لا عمر جالها ترى الجار فيها قالات حشايمه
وهو هنا يقصد بالنخلين النخلين المتجاورين، نخل الفارس ونخل الخريف.
كما يمكن أن يخرج علينا من يقول كان الاسم القديم للعودة (القري)، ويستشهد بما ورد في كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي، والذي ذكر ما نصه: “قري بني ملكان: باليمامة أيضا قرية كان يسكن ذو الرمة وأهله بها إلى الساعة، قاله الحفصي، وقريّ بني قشير، قال الحفصي في ذكره نواحي اليمامة: على شط وادي الفقيّ مما يلي الشمال قريّ يسير”، ويربط هذا بما ذكر أن جماز ملكانية ولذي الرمة في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني، حيث قال ما نصه: “ثم تقفز من العتك في بطن ذي أراط ثم تسند في عارض الفقي فأول قراه جماز وهي ربابيّة ملكانية عدويّة من رهط ذي الرّمة”.
ففتح المجال لكل من وجد إشارة هنا أو هناك لأي اسم أن يطلقه على العودة هو أمر غير مقبول، فمثل هذه الاجتهادات لابد أن تدرس بعناية ووفق منهجية علمية، ولا يتلفظ بالكلام هباء كيفما اتفق في تغريدة أو مقالة، بل تعضد بمصادر تاريخية مختلفة، ووثائق معتبرة، ويعرض فيها من يذكر ذلك أسلوبه في الاستنباط وفق المنهجيات العلمية المتبعة في مثل هذه القضايا، كما لا يقدم ما توصل إليه كحقائق وإنما كاجتهادات، فالباحث الحقيقي -وخصوصًا في العلوم الإنسانية والتاريخية- هو من لا يقطع بما توصل إليه، لذا نرى أن كثيرًا من علماء طرق البحث العلمي يؤكدون على ضرورة تقليل الباحث من قدر نفسه حتى لا يغتر بما توصل إليه، ولا تأخذه مشاعر الغرور والزهو بالنفس فيطرح اجتهاداته كحقائق غير قابلة للنقاش.
وعليه فالاسم التاريخي الثابت لعودة سدير هو عودة سدير، وربما كان في مرحلة من المراحل الزمنية العودة فقط، وقد وردت بهذا الاسم في عدة وثائق ومصادر تاريخية على مدى مئات السنين، بل إن هناك وثائق ومصادر تاريخية تثبت أن اسم العودة كان موجودًا في تلك الفترات التي يذكر أنه اطلق عليها اسم أخر، لا يسع المجال لذكرها هنا، وسنفردها في دراسة علمية مستقلة، ونحن هنا نؤكد أننا لا ننفي أي مسمى أخر للعودة ولا نثبته.
ومما يجدر ذكره هنا أن كثيرًا من بلدات سدير لم تتغير اسمائها عبر الزمن، فلماذا يتغير اسم العودة؟، ومن المعلوم أن تغيير اسماء البلدات هو من الأمور غير الشائعة، حتى وإن أتى من يحاول تغييره يبقى فيها من أهلها الذين لا يتفقون معه، ولن يقبلوا بذلك، خصوصًا إن استمر سكنها، ولم ينقطع عنها أهلها، وحتى وإن خربت وأتى أناس من بعدهم وأعادوا إحيائها، ففي صفحة 96 من كتاب: (تاريخ حمد بن محمد بن لعبون الوائلي الحنبلي النجدي) يذكر زمن نزول مدلج وبنوه للتويم وهي من بلدان سدير: (وكانت بلد التّويم قبل ذلك قد استوطنها أناس من عايذ بني سعيد، بادية وحاضرة، ثم إنهم جلوا عنها ودمرت، وعمرها مدلج وبنوه، وذلك سنة 700 تقريبًا)، وهنا نلحظ أنه لم يتغير اسم التويم رغم أن من أتى إليها وأحياها من قبيلة أخرى، وأناس أخرون.
ولا نريد من أحد أن يرد بذكر أسماء بلدات تغيرت، فنحن نقول من غير الشائع، فقد ذكر صاحب كتاب (صفة جزيرة العرب) الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني المولود سنة 280هـ والمتوفي على الأرجح سنة 344هـ: “ثم تصعد في بطن الفقي (وادي سدير، ورغم قدم تسميته بوادي سدير إنه لازال يعرف باسم وادي الفقي) فترد الحائط (حوطة سدير) حائط بني غبر قرية عظيمة فيها سوق وكذلك جماز سوق في قرية عظيمة أيضاً، ثم تخرج منها إلى روضة الحازمي (روضة سدير) وبها النخيل وحصن منيع، ثم تمضي إلى قارة الحازمي وهي دون قارة العنبر (هنا مفارقة عجيبة فكيف صعد للروضة ثم نزل للحوطة! وهذا يمكن تفسيره بأن المؤلف ربما لم يزر المنطقة وإنما ذكر له ذلك) وأنت في النخيل والزروع والآبار طول ذلك، ثم توم (التويم) ثم أشّي (وشي) ثم الخيس (الخيس) ثم تنقطع الفقي وتيامن كأنك تريد البصرة فترد منيخين (جبل منيخ مطل على المجمعة من الجهة الغربية) ثم الحنبلي وهما ماءان فبمنيخين نخل قليل ولا نخل على الحنبلي”
لا يوجد في حقيقة الأمر أي دليل على سبب تسمية عودة سدير، وجميع ما ذكر هو كلام مرسل، واجتهادات، حيث مما ذكر أنه إسم قرية في الفرعة في وادي الدواسر، وعندما انتقل أهلها للعودة في القرن الثاني عشر للهجرة أطلقوا هذا الاسم عليها نسبة لقريتهم السابقة، وبسؤال أهل الفراع في وادي الدواسر ذكروا أن الفراع هي كما يلي: “فرعة آل ناهش، وفرعة آل عويمر، وفرعة آل ناصر وآل معني، وفرعة الولامين وقد خرجوا منها من 150 سنة”، ولم يذكروا العودة من ضمنها، وربما يقال أنه اسم قديم لا يذكره الحاليون، نقول إن نسوه أهل البلد، فكيف ذكره من خرج منها بعد ثلاثمائة سنة، وانقطعت صلته بها؟
كما أنه ورد في كتاب: (اتحاف اللبيب في سيرة الشيخ عبدالرحمن الحصين: الزاهد والداعية في خب الشماس 1280هـ – 1337هـ ونسب الحصين وموطنها ورجالاتها وعلم الأنساب) صفحة 124، ما نصه: “نزح من الوادي جدنا الأول وهو (شماس) بن غانم بن ناصر (المبيعيج) بن ودعان بن سالم بن زايد انتقل من الفرعة العليا هو وأبناه (حسن وحسين)”، وهذا يخالف ما ذكر بأن هذه الفرعة كان اسمها العودة.
ولإثبات وجود قرية في الفرعة باسم العودة لابد من عرض مصادر تاريخية أو وثائق تثبت هذه المعلومة، من حيث وجودها، ووجود من تنسب له وقتها فيها، وإثبات أن التسمية كانت لاحقة لوجوده في البلدة، وإلا يعتبر ما قيل هو اجتهاد ربما يصيب فيه المرء وربما يخطئ.
أما سبب تسميتها بالعودة، فلا يوجد حتى الآن مصدر تاريخي أو وثيقة تثبت سبب التسمية، فالعودة لغويًا تعني الرجعة، فقد ذكر الجوهري: “وعاد إليه يعود عودة، وعوداً: رجع، فربما يكون هذا الاسم – وهذا اجتهاد ربما نصيب فيه وربما نخطئ – أطلقه عليها أهلها عندما عادوا إليها بعد أن غادروها بسبب القحط والجوع، فقد أشتهر وعرف عن هجرة أهل سدير لبلداتهم عدة مرات عبر التاريخ بسبب القحط والجفاف والفقر، ومن ثم يعودون إليها زمن المطر والرخاء.
يذكر الأستاذ محمد الفهد العيسى في سياق حديثه عن عودة الدرعية، ما يلي: “(العودة): وتعرف بعودة الدرعية، وهي بلدة الدرعية القديمة، وغالباً ما يطلق أهل نجد هذا الاسم على البلدة القديمة، مثل (عودة سدير) و (العود) إحدى محلات الرياض القديمة. (الدرعية: قاعدة الدولة السعودية الأولى/ محمد الفهد العيسى؛ تقديم حمد الجاسر. مكتبة العبيكان، 1415هـ، ص 26)، وهذا يدل على أن تسمية العودة لأي مكان يدل على قدم المكان والتسمية.
وهنا يمكن الاستدلال بالقياس – وهو منهج علمي – فقد ذكر الأستاذ خالد بن برغش بن عثمان البرغش الوهبي التميمي من أهل تمير، في مقال له عن التويم بعنوان: (المساجد القديمة في بلدة التويم: أئمتها ومؤذنوها 1200هـ إلى 1422هـ) عن وثيقة حول العود بالتويم، هذا نصها: “من عبد العزيز بن عيبان الى الاخ المكرم إبراهيم بن محمد العتيقي اعتقنا الله واياه من النار وجعله من عباده الاخيار سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وموجب الخط ابلاغك جزيل السلام والسؤال عن حالك وغير ذلك من طرف مسجد عود التويم خلت حلته من السكن وصار من خارج الحلة حلة اخرى وهي القديمة …”، فمن الممكن أن أهل العودة لأي سبب من الأسباب نزلوا منزلة جديدة، ربما تكون على سبيل المثال في علو العودة، عندما تهدمت بيوتهم بسبب الأمطار والسيول، أو لأي سبب من الأسباب، ثم عادوا لبلدتهم القديمة وسموها العودة، ونشير إلى أن هذه فقط فرضية، يمكن أن تدرس وتمحص ضمن فرضيات سبب التسمية؛ وإلا فالحقيقة أنه ليس هناك من داع لتفسير سبب التسمية، وإن عرضت سبب التسمية كاجتهاد فيجب أن توضح أنها اجتهادات وليست حقائق.
ختامًا:
كلنا أمل ألا يأخذ أحد في خاطره علينا، فليس من المنطق أن تنشر مثل هذه المعلومات عن بلدتنا هنا وهناك، ويطلب من الجميع السكوت، ومن يناقشها يصبح كمن عادى من ذكرها – ويتحول جهدنا من خدمة تاريخ بلدتنا لقلت وقلنا – وتتحول هذه المعلومات التي ذكرت – عند سكوتنا وعدم مناقشتنا لها – بعد فترة من الزمن كحقائق يتناقلها الناس، ويأتي بعدنا من يقول هذا من الموروث ومن المتواتر ومن المعروف ومن الثابت، وهي معلومات طرحت بلا دليل ولا برهان قطعي الدلالة قطعي الثبوت.