تمهيد:
اتصف العرب منذ الجاهلية بجملة من مكارم الأخلاق، كالكرم، وإغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم، وإكرام الضيف. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه القيم حين قال: “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”. وقد جعلت هذه الصفات من شبه الجزيرة العربية ملاذًا للمضطهدين، خصوصًا الفارين من الاضطهادات الدينية، مما أسهم في دخول ديانات متعددة إلى الجزيرة، ومنها النصرانية.
دخول النصرانية إلى نجد:
دخلت النصرانية إلى وسط الجزيرة العربية بفعل عوامل دينية وسياسية وتجارية، كان من أبرزها:
– الاضطهاد الديني من قِبل الكنيسة البيزنطية لأتباع المذهب النسطوري، ما دفع بعضهم إلى الهروب إلى قلب الجزيرة طلبًا للحرية الدينية.
– وجود صوامع رهبان تمتد من فلسطين وسيناء حتى داخل الجزيرة، مما ساهم في تعريف عرب البادية بالنصرانية.
– أشارت مصادر مبكرة كالمؤرخ “سوزومين” في القرن الرابع الميلادي إلى وجود أساقفة في قرى العرب، مما يرجّح استقرار المسيحيين في هذه المنطقة في وقت مبكر (بدوي، 2002).
المذهب النسطوري وانتشاره:
المذهب الذي انتشر في نجد هو المذهب النسطوري، نسبة إلى نسطور بطريرك القسطنطينية سنة 428م. وقد تركز انتشار هذا المذهب في البيئات المعزولة عن السلطة البيزنطية، مثل قلب الجزيرة، حيث وجد أتباعه نوعًا من التسامح النسبي في ظل انعدام مركزية دينية موحدة بين العرب.
أماكن انتشار النصرانية في نجد:
1. مملكة كندة:
أقامت قبيلة كندة، ذات الأصول اليمنية، مملكة في نجد خلال القرن الخامس الميلادي، وكان ملوكها نصارى، ويمثلون نموذجًا لارتباط النصرانية بالسلطة السياسية في قلب الجزيرة. ساهمت كندة في نشر النصرانية بين القبائل الوثنية، وظل أثرهم باقياً حتى بعد سقوط دولتهم، كما يتضح من شخصية أكيدر بن عبدالملك الكندي، ملك دومة الجندل عند ظهور الإسلام (هاشم، 2015).
الملك | فترة الحكم | اللقب | المصدر التأريخي |
ربيعة بن معاوية آل ثور | 220 م | ملك كندة وقحطان | نقش DAI Barʾān 2000-1 |
مالك بن بدى أو بد | 230 – 240 م | ملك كندةومذحج | نقش CIAS 39.11/o 2 n° 8 |
مالك بن معاوية | 287 – 312 م | ملك كندة ومذحج | نقش MB 2006 I-54 |
حجر بن عمرو | القرن 5 م | ملك كندة | نقش Ph-Ry-Li |
عمرو بن حجر | القرن 5 م | – | المصادر العربية |
الحارث بن عمرو | القرن 6 م | – | المصادر العربية |
امرؤ القيس بن حجر | القرن 6 م | – | المصادر العربية |
2. اليمامة وبنو حنيفة:
انتشرت النصرانية في منطقة اليمامة، وكان عدد من بني حنيفة يدينون بها، ومنهم هوذة بن علي الحنفي، أمير اليمامة زمن البعثة، والذي كانت له بيعة في قريته “قرّان” (عيسى، 2016).
3. طرق التجارة والحج:
كان للتجار النصارى دور فاعل في نقل المعتقد المسيحي إلى وسط الجزيرة عبر رحلاتهم بين الشام والعراق واليمن والحجاز. وكانت الأديرة المنتشرة على الطرق التجارية ومحطات الحجاج تُقدّم خدمات الضيافة والماء، وأصبحت بمثابة محطات دعوية مدعومة من كنائس الشام والعراق.
التداخل الديني مع بقية المعتقدات:
كانت النصرانية واحدة من ديانات عدة في بيئة الجزيرة العربية، إلى جانب الوثنية واليهودية والحنفية. وظهر في تلك الفترة تيار من “الحنفاء” الموحدين الذين رفضوا عبادة الأصنام وتأثر بعضهم بالنصرانية، كما حصل مع ورقة بن نوفل. إلا أن النصرانية لم تكن على وفاق دائم مع هذه الاتجاهات، بل دخلت معها في حالات تفاعل فكري أو انعزال عقدي.
أثر النصرانية في الشعر الجاهلي:
ظهر تأثير النصرانية في أدب الجاهلية بوضوح، حيث ورد ذكر الرموز الدينية المسيحية كالرهبان، والأديرة، والصلبان، وطقوس العبادة. وقد تأثر عدد من شعراء نجد وشبه الجزيرة العربية بالمفاهيم الدينية النصرانية نتيجة احتكاكهم بالبيئات التي انتشرت فيها هذه الديانة، خاصة في الحيرة والبحرين. وفيما يلي نماذج بارزة لذلك:
1. الأعشى الكبير (ميمون بن قيس) من أهل اليمامة:
يُعد الأعشى من أبرز شعراء نجد في الجاهلية الذين تأثروا بالحضارة النصرانية، إذ كان كثير التردد على الحيرة حيث الأديرة والكنائس. ويظهر هذا التأثر جليًا في أشعاره التي تناولت الرهبان وطقوسهم، فقال:
وناجٍ يقولُ يومًا وقد قرّبوا لهُ
شرابًا بهِ باقِ الرُّهابِيِّ مُرْعَزُ
و”الرهابي” هنا يشير إلى راهب من مدينة الرُّها، وهي مركز نسطوري بارز.
كما صوّر مشهد الأديرة والرهبان في قوله:
أرقتُ وما هذا السُّهادُ المؤرّقُ
وما بيَ من سُقمٍ وما بيَ مَعشَقُ
ولكن أراني لا أزالُ كأنني
أراقب رهبانًا ببيْن المُخرَّقُ
و”المُخرّق” اسم دير معروف في الحيرة، مما يدل على اطلاعه على مظاهر العبادة النصرانية.
ويذكر في موضع آخر صنع الرهبان للنبيذ:
وشارِبِ مُدامٍ مِنْ كُمَيْتٍ يُفَتَّقُ
يُدِيرُ بها الرُّهبانُ في كلِّ مَشرَبِ
كذلك يُشير إلى طقوس الصلاة والخشوع لدى النصارى:
إذا ما دُعُوا للَّهِ قاموا وأقبلوا
عُكوفًا على الأذقانِ شُكْعًا وهُوَّعا
في إشارة واضحة إلى مظاهر العبادة في الديانة المسيحية، من ركوع وسجود وخشوع.
2. عبيد بن الأبرص من تميم في نجد:
كان عبيد بن الأبرص مطّلعًا على الكتب والأديان السابقة، ويظهر ذلك في شعره الزاهد، الذي يلامس معاني دينية رائجة في اليهودية والنصرانية:
وكلُّ ذي غَيبَةٍ يَؤُوبُ
وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ
وكلُّ مَن فوقَها فانٍ
وكلُّ مَن دونها دَبيبُ
يُستشهد بهذه الأبيات في باب الزهد، لما تحمله من معانٍ حول الفناء والموت، وهي مفاهيم شائعة في الوعظ الديني.
3. زيد بن عمرو بن نفيل – من أحناف الجاهلية (من مكة، وله صلة بنجد):
كان زيد بن عمرو من الموحدين في الجاهلية الرافضين لعبادة الأصنام، وتدل أشعاره على توجهه إلى عبادة الله وحده، متأثرًا بمبادئ الحنيفية التي تشترك مع النصرانية في بعض المعتقدات:
أأعبدُ ما تنحتونَ من حجرٍ؟
إلهٌ تعالى عن الحجرِ
ولكن أعبدُ ربَّ السما
وأُصلي له في الدُّجى وأَسْتَغْفِرُ
يتجلى في هذا النص ميله إلى التوحيد وابتعاده عن الوثنية، وهو مما يتقاطع مع دعوات الأنبياء والرسل، لا سيما ما كان عليه بعض النصارى من الموحدين.
أهم الأديرة والكنائس:
1. بيعة قرّان (القرينة):
كانت مقرًا لمعبد نصراني، كما يرد في حديث وفد طلق بن علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أمرهم بتحويل “بيعتهم” إلى مسجد بعد إسلامهم. وقد أشار الهمداني، وذكرها حمد الجاسر في كتاباته، كما أن آثارًا بنائية تعرف باسم “الكنيسة” لا تزال قائمة في القرينة، مما يعزز الرواية التاريخية.
2. كنيسة مسافر:
يقع موقعها قرب عودة سدير، وقد وجدت فيها بقايا محراب يتجه نحو القدس، وهي دلالة أثرية على أنه كنيسة.
3. كنيسة الجبيل:
في الجنوب الغربي من محافظة الجبيل شرق المملكة العربية السعودية، برز اكتشاف أثري مهم عام 1986م، تمثل في بقايا كنيسة قديمة تعود إلى المذهب النسطوري، أحد المذاهب المسيحية التي انتشرت في المنطقة قبل الإسلام. تُشير الدراسات الأثرية إلى أن هذه الكنيسة بُنيت في القرن الرابع الميلادي، ما يجعلها من أقدم الكنائس المعروفة في العالم. وقد شُيّدت جدرانها من الطوب، وغُطيت بطبقة من الجبس، ولا تزال أطلالها قائمة حتى اليوم دون أن تُظهر آثاراً لحرق أو تهديم متعمد، بل إن ما تهدّم منها يعود غالبًا إلى عوامل الزمن وسقوط الأسقف بفعل التقادم. يُعد هذا المعلم الأثري دليلاً ملموسًا على التواجد النسطوري في شرق الجزيرة، ويعزز من الروايات التاريخية حول وجود تجمعات مسيحية في مناطق متعددة من نجد والأحساء والبحرين القديمة.
الشَّمّاس في المذهب النسطوري ودوره في نجد:
الشَّمّاس (Diaconus) هو أحد الرتب الكنسية في التدرج الهرمي للمسيحية، ويُعد أدنى مرتبة من القس والأسقف، ومعناه في الأصل اليوناني “الخادم” أو “المُعاون”، لأنه يقوم على خدمة الكنيسة والكهنة والناس. وقد كان لهذه الرتبة حضور بارز في النظم الكنسية الشرقية، لا سيما المذهب النسطوري، الذي ساد بين نصارى العرب في شمال الجزيرة ووسطها.
وظيفة الشَّمّاس في الكنيسة النسطورية:
في الكنائس النسطورية، والتي استقلت عن سلطة الكنيسة البيزنطية، كان للشماس دور فاعل دينيًا واجتماعيًا، تمثلت مهامه في:
– خدمة المذبح ومساعدة الكاهن أثناء الصلوات والطقوس.
– قراءة الإنجيل وتفسيره للمؤمنين.
– التبشير، والإشراف على التعليم الديني.
– القيام بمهام إدارية داخل الكنيسة، وفي بعض الحالات، تولّي مسؤوليات دينية مؤقتة في غياب القساوسة.
الشَّمّاس كمواقع جغرافية:
تُعزز تسمية بعض المواضع في نجد، وإن كانت خففت أسمائها بحذف الشّدة، من الافتراض بأن هذه التسميات كانت في الأصل مرتبطة بوجود شمامسة أو كنائس نسطورية في تلك المناطق أو أديرة في طرق الحج النصراني. فغالبًا ما كان يُطلق اسم الشَّمّاس – أو أحد مشتقانه – على المكان الذي يقيم فيه الشَّمّاس أو يُشرف عليه كنسيًا، وقد بقيت هذه الأسماء في الذاكرة الجغرافية حتى بعد اندثار الكنائس نفسها.
ومن تلك المواقع:
الاسم | الموقع الحالي التقريبي | الدلالة التاريخية |
الشماسية | شرق القصيم (قرب عنيزة) | يحتمل ارتباط الاسم بوظيفة “الشماس”، دلالة كنسية. |
الشماس | القصيم، بريدة | تكرار الاسم في عدة مواقع يدل على وجود ديني مسيحي سابق. |
الشماسين | الطائف | اسم يوحي بوجود شمامسة أو موقع ديني نصراني. |
شماس خميس مشيط (آل شماس) | عسير | من الأسر التي يُحتمل ارتباطها بتراث نصراني قديم. |
واستمرار هذه الأسماء حتى اليوم يعد شاهدًا على عمق الحضور النصراني في وسط الجزيرة قبل الإسلام، ويشير إلى أن المسيحية لم تكن عقيدة فحسب، بل كانت ديانة ذات تنظيم هرمي ومؤسسات، ساهم فيها الشمامسة بفاعلية في نشر الدين النسطوري بين العرب.
علاقة النصرانية بالسلطة في نجد:
اتخذت النصرانية طابعًا سياسيًا أحيانًا، كما في حال كندة وبني حنيفة، حيث ارتبط الدين بالنفوذ القبلي والإقليمي. وكان من بين هؤلاء الزعماء:
– هوذة بن علي: شيخ بني حنيفة، أمير اليمامة، شاعر حكيم، وكان يطلب منه المفاوضة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
– أكيدر دومة الجندل: حليف لبيزنطة، وقد عقد معه النبي صلى الله عليه وسلم صلحًا في السنة التاسعة للهجرة.
أعلام وشخصيات نصرانية بارزة:
– ورقة بن نوفل: من الحنفاء، كان مطلعًا على كتب أهل الكتاب، وتنصر في مكة.
– حاتم الطائي: عرف بالكرم، ويُروى أنه كان على دين النصارى.
شعراء محتملو النصرانية أو المتأثرون بها:
– امرؤ القيس
– زهير بن أبي سلمى
– الأعشى
– عنترة بن شداد
– أوس بن حجر
– سلامة بن جندل
موقف الإسلام من نصارى نجد:
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجد وفق سياسة الدعوة أولاً، ثم الحوار، كما حصل مع وفد طلق بن علي الذي أسلم بعد الحوار، وقام بتحويل كنيسته إلى مسجد. ويشير ذلك إلى مسار تسامحي دعوي في التعامل مع النصارى، لا سيما من أهل نجد.
النتائج الأثرية الحديثة:
تشير بعض الدراسات الأثرية الحديثة إلى وجود مبانٍ دينية قديمة في قرى نجدية، ومنها القرينة، ومسافر، وهو ما يمكن أن يكون موضع اهتمام أكبر من قبل الهيئات الأثرية السعودية، مثل هيئة التراث. كما أن بعض المواقع لا تزال تعرف محليًا باسم “الكنيسة” أو “البيعة”، مما يدل على بقاء الذاكرة الشعبية لهذه الحقبة.
خاتمة:
أثبتت الشواهد التاريخية والأثرية أن النصرانية كانت حاضرة في نجد قبل الإسلام، لا باعتبارها دينًا وافدًا فقط، بل كجزء من التركيبة العقائدية والاجتماعية والسياسية للمنطقة. وقد هيأ هذا الوجود المتعدد الخلفية الثقافية والدينية التي استقبلت بها الجزيرة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الإسلام استجابةً إلهية لما خَلَفَته الديانات السابقة من تمزق عقائدي وحاجة لوحدة إيمانية.
المراجع:
– بدوي، عبدالمجيد أبو الفتوح محمد. (2002). النصرانية في جزيرة العرب وسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه النصارى. مجلة العقيق، المجلد 20، العددان 39–40، الصفحات 15–65.
– إبراهيم، محمد حمزة. (2012). الأديان في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام من خلال الشعر الجاهلي. مجلة الخليج العربي، المجلد 40، العددان 1–2.
– عيسى، محمد عبدالنبي عطية عبدالله. (2016). النصارى في جزيرة العرب قبل الإسلام. مجلة فكر وإبداع، العدد 102، الصفحات 271–293.
– صبرة، علي محمد علي، & النغيثر، أحمد عبدالله. (2020). المسيحية في الجزيرة العربية خلال القرنين الرابع والسادس الميلادي. في: مركز المسبار للدراسات والبحوث (إشراف). دراسات في التسامح. 22 سبتمبر 2020.
– هاشم، زينة قاسم. (2015). العقائد المسيحية في الحجاز قبل الإسلام. مجلة الآداب، ملحق خاص، الصفحات 319–334.