تعد كتابة التاريخ من أهم العلوم الاجتماعية التي تسعى إلى توثيق الأحداث الماضية، وتصويرها بشكل موثوق، وفهمها بشكل دقيق، ومن أهم القيم الأخلاقية في كتابة التاريخ هي مبدأ الحياد، وهو يعني أن يتعامل الكاتب مع التاريخ بعدل ونزاهة، دون التحيز لأي جانب أو آراء محددة، وأن يكون موضوعياً ومنصفاً في تحليله وتفسيره للأحداث التاريخية، بحيث يعكس الحقائق والوقائع بدقة ودون تحيز، ونقصد هنا يالتحيز تغيير الحقائق التاريخية، أو تفسيرها بشكل خاطيء، أو إخفاء وإهمال بعض الحقائق التاريخية.
يذكر الأستاذ بندر بن حسين الزبالي الحربي في مقال له في جريدة الجزيرة بعنوان: (دراسة التاريخ وما يشترط في المؤرخ) العدد 18309 الصادر الجمعة/السبت 08-09 شوال 1444هـ الموافق 28-29 أبريل 2023م، ما يلي:
“والمؤرخ يُشترط فيه الصدق والعدل، ويحتاج لمصاحبة الورع والتَّقوى، وألا يغلبه الهوى، ويكون حسن التصور للموضوع الذي يكتب فيه، مع الإحاطة بما ورد من الأخبار والنصوص، وأن يكون حسن العبارة، عارفاً بمدلولات الألفاظ، ويترك غرائب الآراء وشواذها، ولا يسعى إلى الشهرة والمخالفة بمثل تلك الغرائب، ولا يأخذ بالتَّوهُّم والقرائن التي تختلِف، ولا بد من أن يتحرى الدقة لكي يتجنب الوقوع في الأخطاء، ومن صفاته الأساسية عدم التحيُّز.
وعلى المؤرخ أن يكون ذا بصيرة ووعي فيما ينقله عن المصادر، فلا بد من فحصها ودراستها دراسة عميقة للأخذ عنها، مع الاطلاع على سِيَر مؤلفيها ومعرفة آرائهم واتجاهاتهم العلمية؛ فليس كل مكتوب يصح نقله وإثباته.
فالمؤرخ لا يأخذ بنص واحد ويهمل بقيَّة النصوص ليُثبت بذلك شيئاً تهواه نفسه، أو يرى أنه كافٍ له في الاحتجاج على مُخالفيه؛ فيجعل بعض الأقوال بمنزلة الحُجّة الدامغة، ويعتقد أن ما وجده دليل قاطع له في إثبات ما يراه من زاوية ضيِّقة، صارفاً نظره عن التدقيق والتمحيص والمطالعة والتحقق، وعن جمع أقوال العلماء والنظر فيها بالمقارنة والمطابقة؛ فمثل ذلك ليس بمؤرخ، وقد يضل عن الحق ويزيغ عن بيان الحجة للخَلْق.
والاستدلال ببعض الأقوال وترك بعضها الآخر ليس كافياً لمن يريد التوصل إلى استنتاج معين من أجل إثبات فرضيّة ما؛ فعلم التاريخ لا يمكن أن يكون علماً إذا كان عرضة للأهواء والنوازع، وهناك فرق بين التاريخ العلمي الذي يقبل بالوثائق والبراهين، وبين التاريخ الأيديولوجي الذي يخضع للأهواء والأوهام، وهناك فرق بين المؤرخ الذي يكتب التاريخ من مصادره الصحيحة، وبين المتوهِّم الذي يتشبث بما يؤيد وجهة نظره وهواه”.
أمانة القلم في كتابة التاريخ
كما أن على الباحث أن يبتعد عن التعصب والتحيز للآراء أو التحزّب بأنواعه، ويعتمد على النصوص والأدلة قبل النظر إلى الأشخاص واتجاهاتهم؛ للوصول إلى الحقيقة عندما تتضارب الروايات والأقوال، وتختلف الآراء والأفكار؛ فالحق لا يُعرف إلا بالدليل.
كما يقول الأستاذ محمد عبدالغني حسن في كتابه: (أعلام الأدب العربي المعاصر: ترجمة حقيقية لـ 50 شخصية أدبية)، ص 7 : “إنَّ الترجمة لا بد أن تأخذ حقها من التحقيق العلمي والبحث ومعارضة الأحوال والأقوال بعضها ببعض حتى يتميز الزائف من الصَّحيح، كما يجب أن تؤخذ أقوال الرُّواة بعين الاعتبار والوزن لما قد يكون فيها من ميل للمترجم له أو هوًى معه أو تعصب عليه ؛ فإنَّ النَّاس لا تتفق آراؤهم في شخص معين، كما أن تقديراتهم قد تختلف لاعتبار أو لآخر”، فإن من الواجب على المؤرّخ أن ينزع عنه الحظوظ الشخصية؛ ليحكم بالعدل والحق.
يقول المؤرخ ابن الطَّقْطَقي في مقدمة كتابه: (الفَخْري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية): “هذا كتاب تكلمتُ فيه عن أحوال الدُّول وأُمور الملك، والتزمت فيه: ألا أميل فيه إلا مع الحق، ولا أنطق فيه إلا بالعدل، وأن أعزل سلطان الهوى، وأخرج من حكم المنشأ والمربى وأفرض نفسي غريبا منهم، وأجنبياً بينهم”.
وفي نفس هذا السياق يقول الأستاذ وليد العبدالمنعم في تغريدة له: “الواجب على المعتني بالتأريخ والتراجم أن يمسك عنان قلمه عن الولوغ في وحل المبالغة، والتي قد تستجره إلى فخ هوي القلم عن يفاع الأمانة العلمية إلى وهدة الكذب أو تزوير الحقائق. أمانة القلم تعظم في صدقه، وقوة الباحث تظهر في محاققته للرواة وتثبته من المرويات”.
أمانة القلم في كتابة التاريخ
مما سبق يمكن أن نستنج بعض الصفات الأساسية للمؤرخ:
– الصدق: يجب أن يتحلى بالصدق والأمانة في تقديم الحقائق وعرض الأحداث بصورتها الحقيقية دون تحريف أو تزييف.
– الدقة: يجب أن يكون دقيقاً في جمع المعلومات وفحص المصادر، ويجب عليه أن يسعى للحصول على معلومات شاملة ودقيقة قدر الإمكان، وأن يتحرى الدقة في توثيق الأحداث وتفسيرها.
– الاعتدال: أن يتجنب التحيز والانحياز لآراء أو مصالح معينة، فيكون صادقاً موضوعياً في تقديم الحقائق وتفسير الأحداث، وأن يعتمد على الأدلة والمصادر الموثوقة فلا يستند على الافتراضات الواهية أو الاعتقادات الشخصية أو الروايات المختلقة، أو المعلومات المبتدعة بلا مصدر.
– احترام العلم: أن يحترم المنهجية العلمية، ويتبع الإجراءات والأساليب التي تعترف بها مجتمعات الباحثين التاريخيين، ويعتمد على تحليل دقيق واستنتاجات مدروسة قبل نشر استنتاجاته.
– الصبر والتواضع: كتابة التاريخ يتطلب صبراً وتواضعاً، وأن يفهم أن تقديم صورة شاملة ودقيقة للتاريخ يستغرق وقتاً وجهداً، فليس كل ما يخطر في باله يكتبه دون تروي وبصيرة.
– احترام القارئ: يجب أن يحترم القارئ، وأن يعتبره شريكاً في رحلة استكشاف التاريخ، وأن لا يقدم له معلومات بلا أدلة ولا براهين ولا وثائق ولا مصادر ليستخف بها عقول القراء، فالقارئ السابق ليس مثل قارئ هذا الوقت، فمصادر المعلومات تحت يده، ومحركات البحث تحت أصبعه.