الباحث: د. خالد حسين محمود
كلية الآداب والفنون – جامعة حائل، المملكة العربية السعودية
كلية الآداب – جامعة عين شمس، جمهورية مصر العربية
شهدت بلاد نجد خلال الفترة من 1300 إلى 1373هـ أزمات وكوارث طبيعيّة عديدة كالمجاعات والأوبئة والسيول والزلازل وغيرها، أفرزت واقعًا مريرًا عايشه الإنسان خلال تلك الفترة. ورغم أهميّة الموضوع الذي يُمثّل علاقة جدليّة بين تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان، ويكشف مدى التفاعل بين المتغيرات المناخيّة وسلوك الإنسان ومعتقداته الشعبيّة ومشاعره وأحاسيسه. ممّا يجعله جديرًا بالدراسة المتعمقة، فإنه لم يثر اهتمام الباحثين، بسبب ندرة المادة التاريخيّة في المصادر القديمة1، التي أولت اهتمامها بالقضايا السياسيّة والعسكريّة بشكلٍ كبير على حساب القضايا الاجتماعيّة.
وإذا كان لكل عمل علمي هدف فإن هدفي من دراسة موضوع: “الكوارث الطبيعيّة في بلاد نجد (1300-1373هـ)” تكمن في:
– محاولة إزاحة الستار عن مراحل صعبة عاشتها منطقة نجد إبان تعرّضها لهذه الكوارث، والتي لا شك تركت أثاراً سلبيّة على كافّة المستويات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والديموغرافيّة، كما أنّها كان لها انعكاسات على الأفكار والرؤى.
– استخلاص ما حوته المصادر النجديّة المعاصرة والمتأخرة من روايات حول الكوارث الطبيعيّة التي وقعت في نجد خلال فترة الدراسة، ثم تحليل معلوماتها.
– حفز همم المشتغلين بالتاريخ السعودي وغيره من العلوم الاجتماعيّة وتذكيرهم بأنّ تاريخ بلادنا ما زال موضوعًا بكرًا يحتاج إلى جهود متكاتفة لإظهاره للناس.
– تذكير الأجيال الحاضرة بما كان عليه حال بلادهم من قسوة في الحياة وما عاناه الأجداد من شدّة وفاقة، وعليهم مقارنة هذا الحال بما نعيشه اليوم من نعمة عظيمة من الأمن والعيش الرغيد، ممّا يستوجب شكر الله المنعم2.
ومن هنا، فإنّ الموضوع يطرح عدّة اشكاليّات، كونه من المواضيع الحسّاسة التي لها تأثير مباشر على الأفراد، فما هو دور الكوارث الطبيعيّة على جوانب الحياة المختلفة؟ وما الأثار الديموغرافيّة الناتجة عنها؟ وما دور الكوارث في تكاتف المجتمع وتكافل أفراده من أجل مواجهتها؟ وما أبرز السلوكيّات الاجتماعيّة والذهنيّة التي أفرزتها الكوارث الطبيعيّة؟ وغيرها من الإشكاليّات.
ومن أجل الإجابة عن هذه التساؤلات اعتمد الباحث على منهج يقوم على جمع الشذرات الواردة بكتب الحوليّات التاريخيّة التي عاصرت فترة البحث مثل: ابن عيسى والبسام. واستخدام المنهج الوصفي التحليلي، ومحاولة وضع الخطوط الكبرى للموضوع.
أمّا عن الدراسات السابقة، فلم يعثر الباحث إلّا على دراسة الدكتور محمد بن سليمان الخضيري بعنوان” العوامل الكونيّة وأثرها على أحوال السكان في بلاد نجد 850 -1157هـ دراسة من خلال روايات المؤرخين النجديين”. تعرض فيها لبعض المظاهر السلبيّة للعوامل الكونيّة، مثل: الجدب والغلاء، فتحدّث عن الأسباب المباشرة لها مثل: قلة الأمطار وما ترتّب عليها من غلاء في الأسعار، وكذلك المجاعات والأمراض والبرد والسيول والرياح وغيرها من الكوارث. وباستثناء هذه الدراسة لم يعثر الباحث عن دراسات أخرى تتناول ظاهرة الكوارث الطبيعيّة بنجد، وهو ما حفّز على دراسة الموضوع، ورسم ملامحه الأوليّة.
يتفق الجغرافيون المعاصرون على اتخاذ معالم واضحة تحدّد إقليم نجد، فهي الأراضي العالية التي تشمل القسم الأوسط من شبه الجزيرة العربيّة، الممتدة بين النفود الكبير شمالًا والربع الخالي جنوبًا، وبين الدهناء شرقًا وجبال السراة غربًا. ويشمل هذا التحديد ما يُعرف في التقسيم الإداري بمقاطعات حائل والقصيم والرياض3.
ويقع إقليم نجد بين دائرتيْ عرض 20 ش من جهة الجنوب و28 ش من جهة الشمال، ويخلو من المسطّحات المائيّة، لذلك كانت السمة القاريّة المتطرّفة هي الغالبة، وقد ينحبس الغيث سنوات متتالية، وتؤثر الانخفاضات الجويّة التي تتوالد على البحر المتوسط على مناخ نجد في فصل الشتاء وتكون الأعاصير الشتويّة في بعض الأحيان من القوة بحيث تغزو الأجزاء الداخليّة في غربي آسيا وشبه الجزيرة العربيّة، ويساعدها على ذلك تأثير المسطحات المائيّة مُمثّلة في بحر قزوين والخليج العربي4.
وأمطار نجد قليلة يتفاوت متوسط كمّيتها بين 50 ملليمترًا على الخرج و 140 ملليمترًا على الزلفى. وفصل الصيف أقل فصول السنة مطرًا، أمّا فصل الخريف فهو أغزر الفصول مطرًا في حائل والمناطق الواقعة إلى الشمال، أمّا الأجزاء الجنوبيّة من بلاد نجد فتتركّز أمطارها في فصل الربيع5.
إنّ أيّ مصطلح يُعبّر عن ظاهرة تاريخيّة له مرادفات في اللغة يستوجب الإلمام بها ومعرفتها، حتّى يسهل فهم هذه الظاهرة وتتبّع مسارها التاريخي، لأن اللغة والتاريخ علمان متلازمان. فترد كلمة الجائحة في معاجم اللغة العربية بديلاً عن كلمة ” الكارثة الطبيعيّة”.
والجائحة في اللغة هي ” الشّدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال”. وقد يدخل في معناها كذلك الاستئصال لأنه من الاجتياح: “يُقال جاحتْهم السنة جوحاً وجياحة واجتاحتهم: استأصلت أموالهم”6، كما تتلازم مع الجائحة مفاهيم أخرى مثل: النائبة “وهي ما ينوب الإنسان أي ما ينزل به من الملمّات والحوادث”7، كما ورد لفظ الجائحة بمعنى “المصيبة تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله”8.
ويُلاحظ من هذه التعريفات أنّ الجوائح والآفات أموال الناس ومشتقاتهم من مصادر العيش، وموارد الرزقى والمعاش، وهو ما يعبرّ عنه بالمصيبة تصيب الإنسان” من الدهر وهو الأمر المكروه، ويُقال أصابهم الدهر بنفوسهم وأموالهم أيْ جاحهم فيها ففجعهم”9. ومن خلال التعريفات يمكن الخروج ببعض الملاحظات:
– أنّ مختلف المفاهيم الواردة تعكس معانٍ متقاربة جدًا.
– تتجلّى العناصر المستهدفة من الجوائح في الإنسان ومصادره الاقتصاديّة.
– أنّ مصدر الجوائح يعود إلى الاضطرابات المناخيّة الفجائيّة أو الدوريّة، التي لا دخل للإنسان فيها ولا قدرة له على ردّها.
سنحاول فيما يلي تعقب أصناف الكوارث الطبيعيّة التي ألمّت بسكان بلاد نجد فترة البحث على النحو الآتي:
معلوم أنّ المجاعات نتيجة حتميّة عن جملة مسببات أرجعها ابن خلدون10 إلى “قبض الناس أيديهم عن الفلح.. والجبايات والفتن الواقعة…وكثرة الأمطار وقِلّتها…فإذا فقد الاحتكار عظم توقّع الناس للمجاعات فغلت الزروع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا، وكان بعض السنوات الاحتكار مفقود فشمل الناس الجوع”.
ومن خلال هذا النص يمكن استخلاص أسباب المجاعات في نقطتين أساسيّتين هما:
– أسباب بشريّة: تمثّلت في الوضع السياسي بسبب الحروب والفتن فضلًا عن احتكار (تخزين) الناس للزرع.
– أسباب طبيعيّة: ارتبطت بالعامل المناخي ومدى وقع تغيراته على الزرع والضرع.
ولمّا كان موضوعنا منصب على الكوارث الطبيعيّة فسوف نقتصر على العامل الثاني، حيث يُبيّن الجدول الآتي المجاعات والقحوط التي تعرضت لها منطقة خلال فترة البحث نتيجة هذه العوامل:
م | تاريخ المجاعة | مظاهر المجاعة | أسباب المجاعة | المصدر |
1. | 1321هـ | عَمّ القحط في نجد، وأجدبت الأرض، وكان الناس لا يجدون الحنطة والتمر” | —- | تحفة
المشتاق، ص391 |
2. | 1326هـ | “وقع القحط في جميع بلدان نجد وأجدبت الأرض | قلة الامطار | الخزانة
النجدية، ص290 |
3. | 1334هـ | “قلت الأمطار في أرض القصيم وأجدبت أرضه، واشتدت المؤونة” | قلة الامطار | تحفة
المشتاق، ص413 |
4. | 1339هـ | “قلت الأمطار في نجد وأجدبت الأرض.. وقحط الناس واشتدت المؤونة على الفلاحين” | — | تحفة
المشتاق، ص419 |
– يتّضح من الجدول أعلاه أن بلاد نجد عرفت فقط أربعة أنواعٍ من القحوط والمجاعات، وهي نسبة محدودة مقارنة مع فترة البحث التي تمتد إلى أكثر من سبعين سنة، وربما يعود ذلك إلى طبيعة الأمطار التي تتساقط على نجد بشكلٍ دوري ولا تنقطع إلّا لظروفٍ استثنائيّة.
– انحصرت هذه المجاعات فقط خلال العقدين الثالث والرابع، وربّما يعود ذلك إلى انتقال المنطقة بعد ذلك إلى حكم الملك عبد العزيز الذي نجحت جهوده المتنوّعة في تغيير نمط حياة السكان، فضلًا عن اكتشاف البترول الذي تسبّب في نقلة نوعيّة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
– إنّ بلاد نجد رزحت تحت وطأة هذه القحوط بشكلٍ منفصل كل 5 سنوات تقريباً.
– إنّ هذه القحوط والمجاعات اجتاحت كل بلاد نجد.
– إذا أمعنا النظر في الظروف التاريخيّة التي اندلعت فيها القحوط والمجاعات نلاحظ أنّها تزامنت مع مراحل فتن واضطرابات وحروب. فعلى سبيل المثال شَهد عام 1321هــ “فتن كثيرة وحروب عظيمة”11، منها عدّة غارات وحصارات من قوّات عبد العزيز بن الرشيد على الرياض وثرمداء وشقراء والوشم والتويم، فتم قطع النخيل ورمي المدن بالمدافع12.
يُعرف الوباء في اللغة بأنّه: كل مرض عام، وقد وبئت الأرض توبأ فهي موبوءة إذا كَثُرَ مرضها، ويطلق على الوباء مرادفات أُخرى: كالقرف والموتان13.
أمّا مفهوم الوباء في الاصطلاح الطبي فيذكر ابن زهر14 أنّ الناس قد اعتادوا على إطلاق اسم الوباء “على الأمراض التي تُصيب أهل بلد من البلدان وتشمل أكثرهم” خاصّة أنّ الناس جميعهم يشتركون في استعمال الهواء الذي يستنشقونه، ولهذا “إذا كان الهواء فاسد عَمّ المرض أهل ذلك الموضع أو عَمّ أكثرهم”.
وتتّفق المفاهيم العلميّة الحديثة على أنّ الوباء مرض عام ناتج عن سبب رئيس مشترك هو “فساد الهواء”، وهو مشترك بين الإنسان والحيوان تُسبّبه البكتيريا، أو فيروسات تختلف حسب نوع المرض الوبائي، وتكون سريعة الانتشار من الشخص المصاب إلى الشخص السليم عن طريق عدّة وسائط أهمّها: الماء والهواء، وبعض الحيوانات القارضة كالجرزان والكلاب البريّة والسنجاب والأرانب15.
وقد تعرّضت بلاد نجد خلال فترة البحث لعدد من الأوبئة التي فتكت بالكثير من الناس، ففي عام 1310هـ تعرّض حجاج نجد في مكة لوباء شديد مات بسببه خلق كثير16. وفي عام 1320هـ وقع “في بلدان نجد وباء مات فيه خلائق عظيمة”17، وفي عام 1325هـ وقع في أشيقر والفرعة “وباء مات فيه خلق”18، وفي عام 1337هـ “حصل وباء عظيم وعَمّ جميع بلدان نجد في خامس عشر صفر من السنة المذكورة إلى سابع من ربيع الأول”19.
وهي التي يسببها قلّة الماء ومده من قحوط وفيضانات ناتجة أساسًا عن تذبذب في المناخ وعدم انتظام التساقط، ويشير ابن خلدون20 إلى ذلك قائلًا:” فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلّتها مختلفة والمطر يقوى ويضعف ويقل ويكثر الزرع والثمار والضرع على نسبته”، ولا شكّ أنّ بلاد نجد كغيرها من المناطق الجغرافيّة قد عرفت سنوات مطيرة وأخرى جافّة نتج عنها حدوث قحط، فقد تعرّضت جميع بلدان نجد عام 1306هـ لسيولٍ شديدة، نتيجة دوام الأمطار بشكل متتابع لمدة 11 يومًا لم تشرق فيها الشمس إلّا لحظات يسيرة، حتّى خاف الناس من الغرق، وكثر الهدم…وانهدمت القليب المعروفة بالوسطى..بأشيقر من شدّة السيل”21. وفي عام 1312هـ “هطلت أمطار غزيرة على البلدان النجديّة…إلّا انها كانت كارثة عليهم حيث انهدمت بيوت كثيرة.. وهلك أناس كثر تحت الهدم”22، وفي عام 1314هـ “سالت نجد سيلاً عظيماً جارفاً لا يكاد يعرف مثله…واحتمل السيل بيوت”23، وفي عام 1321هـ “اشتدّ القحط في نجد …وأجدبت الأرض”24، وفي عام 1323هـ حصل مطر عظيم على مدينة عنيزة، ودخل السيل البلدة من جهة “الجعيفري وانهدم من البيوت ما يزيد عن مائتين وخمسين بيتًا”25. وفي عام 1326هـ “وقع القحط في جميع بلدان نجد”26، وفي عام 1342هـ “حصل مطر عظيم انهدم بسببه قرابة المائة وثمانين بيتًا في بريدة”27.
شكل الجراد آفة طبيعيّة خطيرة على الإنسان وموارده في كل عصر وفي كل مصر عموماً، لأنّه يُهدّد الأمن الغذائي للإنسان ولعلّ أخطر أنواعه على الإطلاق حسب ما يُقرّره علماء الزراعة هو الجراد الصحراوي، لأنه سريع التكاثر والانتشار خصوصًا إذا لم يسقط مطر كثير في فصل الربيع فلا تمت بويضاته فيتكاثر28، حيث يُسمّى ما يتوالد عنها الدبي وهذا ما يفسر لنا أن المؤرخين النجديين الذين يذكرون ظهور الجراد وانتشاره يختمونه عادة بقولهم ” كثر الدباء” أو “أعقبه دباء”29، ممّا يعني أن الدبي متولّد عن الجراد.
غنيّ عن القول إن أهل نجد واجهوا هجوماً للجراد على منتوجاتهم وموارد عيشهم، ممّا سبّب محنًا حقيقة، خاصّة مع بساطة الوسائل، ومحدوديّة التجهيزات الموافقة لواقع العصر وحدود تطوّره، خصوصاً إذا علمنا أن للجراد قدرة فائقة على نثر بيضه في أماكن متعددة وبسرعة وكمية قياسيتين، بحيث الجرادة الواحدة تبيض كل شهر في مدة حياتها، وفي كل مرة تترك ما يقارب من تسعين بيضة30، ممّا يجعل من الصعب حسم دايره واستئصال شأفته بسوائل بدائيّة لا تتجاوز الجمع والحرق، يُضاف إلى ذلك أن جراد الجزيرة العربيّة تميّز عن غيره بأنه “كبير الحجم وسمين”31.
وتكشف المصادر ما خلّفه الجراد من فتك بالمزروعات والمحاصيل ممّا تزايد معه حالة الفقر والغلاء، ففي عام 1307هـ كثر الجراد في الديار النجديّة وأكل الأشجار وبعض الزروع وتسبّب في مجاعة32. وفي عام 1312هـ “كثر الجراد في نجد وأعقبه دباء كثير، ودخل في كثير من الأراضي النجديّة فأكل الأشجار والثمار والزروع وكادت أن تكون مجاعة قاتلة في الأراضي النجديّة”33.
من العوامل الكونيّة السلبيّة التي أثّرت على أحوال سكان بلاد نجد فترة البحث البرد والرياح العاصفة التي تتلف النخيل والأشجار وتقتلعها، أو تكسر جذوعها ممّا يسبب خسارة اقتصاديّة، وقد شهدت بعض السنوات خلال فترة الدراسة رياحًا شديدة وبرد، ولعلّ أول ذكر لها خلال فترة الدراسة حصل عام 1314هـ حيث “وقع برد أتلف أكثر زروع بلدان الخرج وأصاب بعض زروع الرياض”34، وفي العام الموالي حصل “برد شديد في أول الوسمي أتلف البطيخ وأصرع النخل، وهذا البرد المذكور شذب بسببه من كل نخلة نحو خمسين عسيب”35. وفي عام 1320هـ”هبّت ريح وعواصف شديدة في جهات عديدة من نجد، سقط بسببها نخل كثير في القصيم وغيره من قرى نجد”36. وفي 1322هـ حيث هبّت ” رياح وعواصف شديدة في جهات عديدة من نجد.. سقط بسببها نخيل كثير في القصيم وغيره من قرى نجد”37، كما تعرّضت بلاد نجد في عام 1323هـ لـ “مهاب قوية طاح بسببها في عنيزة ما ينوف عن ألف ومائتين نخلة”38. وفي ليلة الخميس من شهر محرم عام 1326هـ هبّت ريح شديدة على الأحساء ونجد بعد صلاة المغرب ودامت خمس دقائق سقط بسببها آلاف النخيل والأشجار39. وبعد صلاة عصر يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الآخر عام1327هـ تعرّضت أشيقر والفرعة لـ “ريح سوداء مظلمة تارة تحمر، وتارة تصفر وتارة تسود، قد ابتنى ذلك من السماء إلى الأرض كالجبال الشواهق، وبقيت الأرض مظلمة ظلامًا شديدًا لا يبصر أحد أحداً”40. وفي الرابع والعشرين من رمضان عام 1342هـ “نزل برد على بريدة وصار سمكه نحو الذراع، وفي الثامن من شوال من هذا العام نزل مطر وبرد ووقعت ريح عظيمة سقطت فيه الكثير من نخل عنيزة بما يقارب الستمائة نخلة، وتأثر طلع النخيل من البرد”41.
ليست الزلازل من صنف الكوارث التي تحدث باستمرار بشكل عام وفي بلاد نجد بشكل خاص نظرًا لبعد مجالها الجغرافي نسبيًا عن خط الزلازل، ويبدو أنّ هذا السبب كان وراء عدم وجود إشارات في المصادر عن حدوث زلازل بنجد فترة البحث.
لا يخفى ما تسببه هذه الكوارث الطبيعية من نتائج مدمّرة على المجتمع الذي يتعرض لها، فإذا كان هذا المجتمع عتيقًا ذا بنية تقليديّة كمجتمع نجد خلال المرحلة المدروسة، فإنّ هذه النتائج لا شك ستكون أكثر تدميرًا وأخطر شأنًا، حيث لم تكن قوى الإنتاج متطورة بشكل يسمح بإيجاد فائض في الإنتاج وتكديسه لمواجهة السنوات العجاف.
تبدو النتائج المباشرة والفوريّة للأوبئة والمساغب التي ضربت بلاد نجد فترة البحث ما خلّفته من وفيّات وضحايا، فقد تسبب وباء عام 1310هـ في وفاة “خلق كثير”42، وخلّف غرق عام 1314هـ”غرق نحو أربعين نفساً من المساردة من قحطان وغرق أيضًا فريق من حرب”43، وفي وباء عام 1320هـ “مات الكثير من الناس”44، ووباء عام 1325هـ “مات فيه خلق كثير”45 ونتيجة القحط الذي عَمّ بلدان نجد عام 1327هـ واشتداد الغلاء وقلّة الأطعمة “مات الكثير من الناس جوعًا خصوصًا من بوادي عتيبة”46. وصاحب وباء عام 1337هـ هلاك “لا يحصيهم إلّا الله سبحانه وتعالى.. وأكثر من مات في هذا الوباء النساء والأطفال.. ومات من أهل الرياض عدد كبير يُقدّر بنحو ألف نفس”47.
ترتب على الكوارث الطبيعيّةفي بلاد نجد بعض النتائج الاقتصادية يأتي على رأسها غلاء الأسعار ليس فقط بسبب الكوارث ولكن أيضًا بسبب احتكار الطعام يقول ابن خلدون48 “ولولا احتكار الناس لها لما يتوقّع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن”. “فاذا فقد الاحتكار عظم توقّع الناس للمجاعات فغلا الزرع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا”.
لا شك أنّ غلاء الأسعار ارتبط بشكلٍ كبير بالإتلاف الذي كان يلحق بالمنتجات الزراعيّة نتيجة الكوارث المذكورة، حيث تقل السلع ممّا يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، فعلى سبيل المثال: أدّى هجوم الجراد على نجد عام 1307هـ إلى “أكل الاشجار ، وبعض الزروع”49، وحين هجم عام 1312هـ “أكل الأشجار والزروع وكادت أن تكون مجاعة”50، ولمّا تعرّضت نجد عام 1320هـ لرياح عاتية “سقط بسببها نخل كثير في القصيم وغيره من قرى نجد”51، أمّا عام 1342هـ فقد طاح بسبب البرد والمطر الشديد “من نخيل بلد عنيزة نحو ستمائة نخلة، وأضر البرد والمطر على ثمر النخيل حتّ منها مقدارًا ليس بالقليل”52.
لذلك فإنّ قيمة السلع الغذائيّة زمن الكوارث قد عرفت ارتفاعاً في أسواق بلاد نجد فترة البحث دون شك، فتكاد كل مجاعة تقترن بغلاء الأسعار، ففي قحط عام 1321هـ “غلت الاسعار…وكان الناس لا يجدون الحنطة والتمر”53، وصاحب قحط عام 1326هـ “غلاء الأسعار، بيع التمر أربعة أوزان بريال، والحنطة أربعة أمداد بريالٍ واحد، والسمن الوزنة بريال ونصف”54، وفي عام 1334 ونتيجة لجدب الأرض “غليت الأسعار وبيعت الحنطة صاع وربع الصاع بريال والتمر أربعة أوزان بريال”55. وحين تعرّضت نجد عام 1339هـ لمجاعة نتيجة قلّة الأمطار وجدب الأرض ارتفعت الأسعار بشكلٍ ملحوظ، حيث بيعت”الحنطة الصاع بريال والتمر ثلاثة أوزان بريال والسمن الوزنة بريالين وثلث ريال واشتدّت المؤونة على الفلاحين بسبب غلاء العلف والسواني بحيث أنّ ناقتين بيع كل واحدة منهما بمائتين وثلاثين ريال، وبيعت القت ثلاثة عشر وزنة بريال، والعشب اليابس خمسة أوزان بريال”56.
أسهمت الكوارث المتلاحقة في مجال بلاد نجد فترة الدراسة في ظهور سلوكيّات خاصة لدى السكان لمواجهتها كان من أهمّها شدة الالتجاء إلى الله تعالى لكشف الضر ودفع المحن، مثال ذلك: حين تعرّضت أشيقر والفرعة لـريح سوداء مظلمة ظلامًا بعد صلاة عصر يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الآخر عام 1327هـ” أقبل الناس على التضرّع إلى الله والتوبة والاستغفار وظنّوا أنّ القيامة قد قامت”57.
كما مثّل السطو والتعدّي والغصب سلوكًا عند بعض الأفراد لتأمين موارد الرزق أيام المجاعات والشدائد، فعلى سبيل المثال، مع قلّة الأقوات والجفاف الذي ساد نجد عام 1327هـ والذي تسبّب في موت الكثير جوعاً أغار بعض سكان شقراء على مجموعة من أباعر الناس وأخذوها58.
اتّجه سكان بلاد نجد في أوقات المجاعات إلى استهلاك أغذية لم يألفوها من قبل بسبب انعدام الغذاء، منها ما هو غريب ومنها ما هو محرم، أو استهلاك النباتات البريّة حتّى يقيموا أودهم، فعلى سبيل المثال نتيجة قلّة الأطعمة ونفاد الأقوات واشتداد الغلاء عام 1327هـ “أكل كثير من الناس الميتة والدم المسفوح بعد طبخه”59. ونتيجة اشتداد الغلاء الذي استمر حتّى عام 1328هـ “أكل كثير من الناس الميتة، وشرب الناس الدم المسفوح وبعضهم يطبخه ويأكله، وأكل البعض الجلود البالية بعد حرقها بالنار.. وصار غالب قوت الناس من أعشاب الأرض”60.
أولاً: اعتمدت الدراسة بشكلٍ أساسيّ على روايات المؤرخين النجديين المعاصرين لأحداث الفترة الزمنيّة لهذه الدراسة أو الذين نقلوا عن معاصريها، وهو ما يجعل رواياتهم تتّسم بالدّقة والثقة، وإن كان يجب البحث عن روايات من مصادر أخرى غير نجديّة، ولكنّه أمر صعب لشح المادة كما ذكرنا.
ثانياً: أنّ الصفة العامة لحياة سكان بلاد نجد خلال فترة البحث كانت قاسية، فلم يخل عام من وقوع كارثة طبيعيّة من قحط وأوبئة وجراد وبرد ورياح عاتية، وإنْ كان يجب عقد مقارنة مع فترات الرخاء التي سادت المنطقة فترة البحث لرسم الصورة كاملة.
ثالثاً: عدم وجود إحصائيات دقيقة في الروايات الواردة في المصادر تهم سكان نجد فترة البحث، لا سيما ما يتعلق بتعداد السكان ووفيّاتهم وأسعار السلع ممّا يصعب القدرة على رسم صورة شاملة ودقيقة للنواحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تهم سكان نجد خلال فترة البحث..
رابعاً: لم يعثر الباحث عن إشارات تفيد بالإجراءات التي قام بها سكان نجد فترة البحث في مواجهة الكوارث الطبيعيّة، أو التوترات الاجتماعيّة التي سبّبتها هذه الكوارث من نزاعات وخصومات، أو ما سبّبته من خلق مجتمع متضامن متكاتف، ممّا يتطلّب توسيع البحث لسد هذه الثغرات.
خامساً: أن المتأمل لمجمل النصوص الواردة بخصوص الكوارث الطبيعيّة في المصادر ركزت بشكلٍ كبير على القصيم وبلاد سدير دون الرياض وحائل وغيرها من مدن نجد، ولعل السبب يعود انتماء المؤلفين إلى هذه المناطق مثل: ابن عيسى والبسام.
سادساً: أن تدوين المؤرخين للحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في بلاد نجد قلّ بشكلٍ ملحوظ منذ نهاية العقد الرابع للقرن الرابع عشر الهجري دون أن نعلم السبب وراء ذلك، وربما لأنهم انشغلوا بالأحداث السياسيّة الجسام التي شهدتها المنطقة بعد ذلك.
1- وهي حقيقة اعترف بها ابن بشر نفسه بقوله “واعلم أنّ أهل نجد وعلماءهم القديمين والحديثين لم يكن لهم عناية بتأريخ أيامهم وأوطانهم ولا من بناها، ولا ما حدث فيها”. مقدمة كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد، تأليف عثمان بن عبد الله بن بشر، منشورات الدارة، ط4، 1402هـ، ج1، ص29-30.
2- الخضيري، محمد بنسليمان، العوامل الكونيّة وأثرها على أحوال السكان في البلاد 850 – 1157 هـ: دراسة من خلال روايات المؤرخين النجديين. الدارة – السعودية , مج 24, ع 2, (1998)، ص6-7.
3- النص، عزة: “المزاج الطبيعي لاق ليم نجد”، مجلة كلية الأداب، جامعة الرياض، العدد1، 1970م، ص17.
4- محمدين، محمد: “مناخ نجد بين أنواء العرب وأسجاعهم والدراسات المناخيّة الحديثة” دراسات جامعة الملك سعود -السعودية , مج 2, ع 2, 1978م، ص262-265.
5- محمدين: مرجع سابق، ص272-273.
6- ابن منظور: لسان العرب المحيط، بيروت، دار الجيل، 1408هـ/1988م، ج1، ص528.
7- نفسه، ج6، ص737.
8- نفسه.
9- نفسه، ج3، ص498.
10- المقدمة، تحقيق محمد الاسكندراني، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 1427هـ/2006م، ص282.
11- البسام، عبد الله بن محمد: تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق، دراسة وتحقيق إبراهيم الخالدي، الرقة، الكويت، 2000م، ص 392.
12- البسام: مصدر سابق، ص 389-390.
13- ابن منظور: مصدر سابق، ج1، ص189-190، ج9، ص280.
14- كتاب الأغذية، تحقيق اكيير اتبونغارتيا، مدريد، معهد التعاون مع العالم العربي، 1992، ص143.
15- الموسوعة العربيّة العالميّة، ط1، الرياض، مؤسسة أعمال الموسوعة، 1419هـ/1999م، “مادة وباء”27/48.
16- ابن عيسى: تاريخ ابن عيسى، جمع وترتيب وتصحيح عبد الله بن عبد الرحمن البسام (خزانة التواريخ النجدية، ج2)، ص263.
17- ابن عيسى: عقد الدرر فيما وقع في بلاد نجد من الحوادث في أواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر، تحقيق عبد الرحمن عبد اللطيف آل الشيخ، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1419هـ، ص117.
18- خزانة التواريخ النجدية، ص290، تحفة المشتاق، ص403.
19- خزانة التواريخ النجدية، ص303، تحفة المشتاق، ص419.
20- خزانة التواريخ النجدية، ص282.
21- خزانة التواريخ النجدية، ص252..
22- خزانة التواريخ النجدية، ص265.
23- خزانة التواريخ النجدية، ص267.
24- تحفة المشتاق، ص 391.
25- خزانة التواريخ النجدية، ص282.
26- خزانة التواريخ النجدية، ص294..
27- تحفة المشتاق، ص 423.
28- الخوجة، محمد الحبيب:”الجراد بين الدراسات الحديثة وبين التصورات الموروثة”، مقال ضمن كتاب الكوارث الطبيعية- آفة الجراد، الرباط، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1989م، ص61.
29- خزانة التواريخ النجدية، ص265.
30- القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1981م، ص470-471، حسنى، حسين: مذكرات ضابط عثماني في نجد، ترجمة وتعليق سهيل صابان، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت ، 2003م، ص68.
31- القزويني: نفسه.
32- خزانة التواريخ النجدية، ص257..
33- خزانة التواريخ النجدية، ص265..
34- تحفة المشتاق، ص381.
35- تحفة المشتاق، ص382.
36- تحفة المشتاق، ص388.
37- تحفة المشتاق، ص388.
38- تحفة المشتاق، ص382.
39- خزانة التواريخ النجدية، ص294.
40- خزانة التواريخ النجدية، ص295.
41- تحفة المشتاق، ص423.
42- خزانة التواريخ النجدية، ص263..
43- خزانة التواريخ النجدية، ص267.
44- تحفة المشتاق، ص273، ابن عيسى:تاريخ، ص145.
45- خزانة التواريخ النجدية، ص290.
46- خزانة التواريخ النجدية، ص296.
47- خزانة التواريخ النجدية، ص303-304، تحفة المشتاق، ص416..
48- مصدر سابق، ص337، 282.
49- خزانة التواريخ النجدية، ص257.
50- خزانة التواريخ النجدية، ص265.
51- تحفة المشتاق، ص388.
52- تحفة المشتاق، ص423.
53- تحفة المشتاق، ص391.
54- خزانة التواريخ النجدية، ص294.
55- تحفة المشتاق، ص413.
56 تحفة المشتاق، ص382.
57- خزانة التواريخ النجدية، ص295.
58- خزانة التواريخ النجدية، ص297.
59- خزانة التواريخ النجدية، ص296.
60- خزانة التواريخ النجدية، ص296.
7- البسام، عبد الله بن محمد: تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق، دراسة وتحقيق إبراهيم الخالدي، الرقة، الكويت، 2000م.
8- حسنى، حسين: مذكرات ضابط عثماني في نجد، ترجمة وتعليق سهيل صابان، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003م.
9- الخضيري، محمد بنسليمان. العوامل الكونية وأثرها على أحوال السكان في بلاد نجد 850 – 1157 هـ : دراسة من خلال روايات المؤرخين النجديين. الدارة – السعودية , مج 24, ع 2, (1998)
10- ابن خلدون: المقدمة، تحقيق محمد الاسكندراني، ط1، بيروت، دار الكتابر العربي، 1427 هـ/2006م.
11- الخوجة، محمد الحبيب بن: “الجراد بين الدراسات الحديثة وبين التصورات الموروثة”، مقال ضمن كتاب الكوارث الطبيعية- آفة الجراد، الرباط، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1989م.
12- ابن زهر: كتاب الأغذية، تحقيق اكيير اتبونغارتيا، مدريد، معهد التعاون مع العالم العربي، 1992.
13- ابن عيسى: تاريخ ابن عيسى، جمع وترتيب وتصحيح عبد الله بن عبد الرحمن البسام (خزانة التواريخ النجدية، ج2).
14- ابن عيسى: عقد الدرر فيما وقع في بلاد نجد من الحوادث في آواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر، تحقيق عبد الرحمن عبد اللطيف آل الشيخ، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، 1419هـ.
15- القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، دار الافاق الجديدة، بيروت، 1981م.
16- محمدين، محمد: “مناخ نجد بين أنواء العرب وأسجاعهم والدراسات المناخية الحديثة” دراسات جامعة الملك سعود -السعودية، مج 2, ع 2, 1978م
17- ابن منظور: لسان العرب المحيط، بيروت، دار الجيل، 1408هـ/1988م، ج1.
18- النص، عزة: “المزاج الطبيعي لإقليم نجد”، مجلة كلية الاداب، جامعة الرياض، العدد1، 1970م
19- الموسوعة العربية العالمية، ط1، الرياض، مؤسسة أعمال الموسوعة، 1419هـ/1999م، “مادة وباء”27/48.
المصدر: محمود، خالد حسين. (2017). الكوارث الطبيعية في بلاد نجد 1300 – 1373هـ. مجلة الدراسات التاريخية والاجتماعية، ع 15، 40 – 51.