المتتبع لتاريخ نجد، والذي يحاول أن يجمع حادثة من هنا، وواقعة من هناك ليشكل صورة عن تاريخ نجد في بعض فترات تاريخه غير المسجل، يجد أن هناك فراغات يصعب ملؤها، فبعض الروايات التي تذكر بلا سند ولا مصدر جعل تاريخ نجد – في بعض مواضعه- ضبابي، ويحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص، وزاد الطين بله المستشرقون الذين زارو نجدًا، فقد خلطوا الحابل بالنابل، والغث بالسمين، فلغتهم العربية الركيكة نقلت لنا كثيرًا من المسميات الخاطئة، والمواقع غير الدقيقة، كما سجلوا حوادث متناقضة، ومعلومات بعضها غير صحيح عن نجد وأهله.
وللأسف نجد أن كثيرًا من الكتّاب ينجرف خلف ما كتبوا، وينقل ما ذكروا، ويستدلل به دون تدقيق، ولنوضح بعض المقصود، ونستشهد بما هو مكتوب، سنستعرض أحد هذه الشواهد.
يذكر النقيب وليام هنري ارفيان شكسبير في كتابه: “النقيب شكسبير: سردية وينستون” ص 157 نص ترجمته: “في العودة وهي أخر قرى سدير شاهدوا أثار الدمار الذي الحقته حملة (غزو) إبراهيم باشا بنجد”.
حملة إبراهيم باشا الغاشمة على نجد، والتي انتهت بسقوط الدولة السعودية الأولى، ودمار الدرعية وتسليم الإمام الشهيد عبدالله بن سعود لنفسه فداء للدرعية وأهلها، بعد أخذ العهود والمواثيق بعدم التعرض للدرعية ومن فيها – والتي ما لبث إبراهيم باشا أن خالف كل ما تفق عليه، فهدمها، وقتل من قتل، وأسر من أسر- واعدم الإمام عبدالله رحمه الله في استانبول بطريقة بشعة.
هذه الحملة لم تمر بالعودة، ولم تقترب منها، ويبدو أن ما شاهدوه هو ربما:
– حوامي وأسوار العودة التي تهدمت، لأسباب – فيما نعتقد- طبيعية يحكمها الزمن والمواد المستخدمة في البناء.
– بقايا أثار مسافر، والتي ربما أنه في زمن الكاتب (وليام شكسبير) كانت فيها بقية من أنقاض فاعتقد أنها أثار دمار لحقت بالبلدة جراء حملة إبراهيم باشا.
ومما يجدر ذكره أن حملة إبراهيم باشا هدمت أجزاء من بعض أسوار وحوامي بلدات نجد التي قاومت هذه الحملة أثناء مرورها بها في طريقها للدرعية، ولاضعاف قدراتها الدفاعية مستقبلًا في طريق انسحابها وعودتها لمصر، كما جعلت في بعضها حاميات عسكرية لتضمن عدم اتحادها مسنقبلًا، فهي تعرف أن نجدًا ما أن ترجع هذه الحملة من حيث أتت فسيعود أهلها للتوحد، وهذا ما حدث بالفعل، فقد قاومت سدير هذا الوجود كما سنذكر لاحقًا، والتفت سدير مرة أخرى خلف أئمة الدولة السعودية الثانية.
حسب ما ذكر في الأطلس التاريخي للمملكة العربية السعودية من إصدارات دارة الملك عبدالعزيز فإن مسار الحملة حسب التالي:
– طريق الغزو (الأحمر): تحركت السفن من ميناء القصير بمصر، رست السفن على شواطيء ينبع، وتنقل الجيش بين بلدات نجد إلى أن وصل للدرعية وفق هذا المسار: ينبع، المدينة المنورة، الحناكية، ماوية، الرس، الخبراء، عنيزة، بريدة، المذنب، شقراء، ضرما، الدرعية.
– طريق الانسحاب (الأخضر): الدرعية، عنيزة، بريدة، أملج، ميناء القصير بمصر.
أما عن وجود الأتراك تلك الفترة في إقليم سدير، فقد كانت (جلاجل) عدة مرات مركزًا لسرايا تمركزت هناك، وذلك من أجل ضمان عدم عودة سدير مرة أخرى خلف الأئمة من آل سعود، وفق الحوادث التالية:
– في شهر ربيع الأول سنة 1233هـ: أثناء مسير حملة إبراهيم باشا للدرعية حاصر شقراء واستعصت عليه – كما استعصت بلدات نجد التي مر بها، فظلت وفية لأئمة الدولة السعودية الأولى، ولم تقبل بالوجود التركي في المنطقة – ثم عقد معها صلحًا، وبعد الصلح معها وفد عليه رجال أمراء بلدات سدير، وربما كان الهدف من هذه الزيارة هو إبعاد شره عن الإقليم، يذكر هذه الحادثة إبراهيم باشا في رسالة مترجمة بعثها إلى والده محمد علي باشا مفصلًا فيها الأخبار حول معركة شقراء، ومؤرخة في 17 ربيع الأول 1233هـ، ورد فيها ما نصه: “سيدي وولي نعمتي صاحب الدولة، إن على مسافة خمس عشرة ساعة من (الدرعية)، إحدى عشرة قرية يُطلق عليها اسم (وادي السدير)، وأن جميع شيوخ هذه القرى قد أوفدوا رجالهم إلى عبدكم، طالبين الأمان، مبدين استعدادهم، للخضوع لخادمكم، والدخول في حوزة حكمه، ومن ثم لا يكون القتال منظورًا في غير (الدرعية)” (1)، ثم أرسل إبراهيم باشا (رشوان آغا) إلى ناحية بلدان سدير، ونزل في بلد (جلاجل).
– في العاشر من شعبان سنة 1236هـ: بعد سقوط الدرعية، نزلت فرقة من جيش إبراهيم باشا في جلاجل بقيادة (أبوش آغا)، ويذكر الفاخري في حوادث هذه السنة بقوله: “وفي عاشر شعبان قدم أبوش آغا سدير في نحو ميه من الخيل نصفها من الجيش، وضربوا ضريبة عظيمة أخذوا بها ما أمكنهم من ذهب وفضة وطعام وسلاح ومتاع، وحبسوا وقتلوا، وأصاب الناس قلق ووجل، وهرب إلى البرية من هرب وإلى البدو وإلى بلده واختفا من اختفا، وقطعوا من نخيل الداخلة أكثر من ألف نخلة، وقطع من جلاجل والتويم والحوطة شيئا قليلًا”.
– في آخر سنة 1237هـ أتى الأتراك إلى الروضة وجلاجل وكان قائدهم (الكيخيا حسين)، فقاد أمير جلاجل سويد بن علي بن سويد بن محمد البدراني الدوسري المقاومة ضدهم، فنازل أهل جلاجل، وحصل بينهم قتال، ورموا جلاجل بالقبس، وقتل من أهل جلاجل إبراهيم بن عمر البدراني الدوسري، ولما عجزوا عنها ارتحلوا، ويذكر الفاخري هذه الحادثة بقوله: “وفي آخر السنة وقت بلوغ الثمرة حشد من حشد واستنجدوا كيخيا حسين ومن معه من عسكره في ثرمدا فنزلوا الروضة، ثم استنجدوا فيصل الدويش بمن معه من قومه، فأقبلوا نحو جلاجل ونازلوه، ورموه بالقبس، فلم يدركوا شيئًا فرجعوا، وقتل إبراهيم بن عمر”.
– في سنة 1238هـ يذكر مقبل الذكير في كتابه (العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية) عن نزول حسن بك أبو ظاهر لسدير، فيقول: “فعندما أرادوا تنفيذ أوامرهم ثار عليهم صاحب جلاجل وبقية أهل سدير وقابلوهم بالسلاح وطردوهم، فرحلوا إلى الوشم”.
– الفترة من سنة 1253هـ إلى سنة 1256هـ كان وجود خورشيد باشا في بلدة جلاجل، ويتندر أهل جلاجل بقصص حوله، ومن ذلك عندما طلب خورشيد باشا بحفر قناة مائية تصعد للجبل، فقال له أهل جلاجل: إن هذا لا يمكن، فالماء يتجه للمطامن (المنطقة المنخفضة)، فقال: “ماء خورشيد باشا يصعد الجبل”، وفي هذا دلالة ومؤشر على تعنتهم في التعامل مع أهالي الأقاليم والبلدات التي يأتون إليها.
خورشيد باشا
ليس كل ما يذكر في كتب المستشرقين أو المؤرخين الغربيين هو صحيح بشكل كامل، لذا فالواجب عند النقل التدقيق، ومعرفة الداوفع للتحقق من صحة ما كتب، كما أنه بشكل عام يجب التدقيق عند إيراد الحوادث التاريخية وخصوصًا تلك التي يذكرها بعض الكتًاب دون سند أو وثائق أو شواهد في مصادر تاريخية، فمن الملاحظ أن البعض يذكر معلومات حول تاريخ نجد وبلداته دون ذكر المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات، مما يصعب معه قبول معلومة من كاتب معاصر لحوادث مرت عليها مئات السنين.
(1) بيانات الوثيقة:
مصدر الوثيقة: دار الوثائق القومية – القاهرة
وحدة حفظها: محفظة (5) بحر برا .
رقمها في وحدة الحفظ: (۳۳) .
تاريخهـا: ۱۷ ربیع الأول ١٢٣٣هـ / ٢٥ يناير ١٨١٨م.
المرجع: من وثائق تاريخ شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث/ عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم. القاهرة: دار الكتاب الجامعي، 1421هـ، مجلد 2، ص 369.