بقلم: عبدالرحمن بن علي العريني
تاريخ نجد قبل الدعوة
لقد تواتر لدى المؤرخين قديمًا وحديثًا أن أول من ابتدأ العمران في اليمامة التي هي أحد أقاليم نجد الآن هم قبيلتا طسم وجديس، هذا العمران الذي يسمى حضور طسم وجديس أو بتل اليمامة، ويقال إن طسم كانت تسكن الخضراء (هجر قديمًا)، وتسكن جديس الخضرمة (جو في الخرج)، وقد تسنمت هاتان القبيلتان الزعامة في اليمامة قرونًا حتى أصبحت الغلبة لطسم على جديس حتى فنيتا على يد أحد تبابعة اليمن في القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد في تفصيل ليس هنا مجاله إضافة إلى ما يشوبه من الخرافات القصصية.
ويبدو أن هؤلاء التبابعة قد اصطنعوا قبيلة كندة التي اندفعت من اليمن إلى نجْد مؤسسة مملكة كندة فيها والتي امتددت من منتصف القرن الخامس الميلادي إلى نهاية القرن السادس الميلادي.
ثم سكن بنو حنيفة من بني بكر بني وائل اليمامة، وكان أول من سكنها منهم هو عبيد بن ثعلبة بن الدّول بن حنيفة متخذا من الخضراء عاصمة له، ثم توافدت أفخاذ بني حنيفة فنزلت قرى اليمامة الأخرى، وذلك في القرن الخامس الميلادي، وقد ازدهرت حجر اليمامة في عهد بني حنيفة حتى أصبحت قصبة اليمامة إلى أن بدأت المخضرمة قبيل ظهور الإسلام تنازع حجر السيادة على اليمامة بعد ما مر بها حوادث أضعفت مكانتها، لعل أبرزها تحريقها من قبل بني قيس، وحوادث أخرى زادت من هذا الضعف حتى أخذت الخضرمة السيادة منها.
ولما ظهر الإسلام كانت زعامة اليمامة لهوذه بن علي وقاعدته الخضرمة، ويبدو أن زعامته كانت عامة لقسم كبير من بني حنيفة إذ لم يذكر المؤرخون إلا أن ثمامة بن آثال كان يساميه في الشرف والرياسة، وهو من أهل حجر التي تتنازع سيادة اليمامة مع الخضرمة.
وإرتد بنو حنيفة مع من إرتد من القبائل العربية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم منقادين لمسيلمة بن ثمامة، وقيل ابن حبيب من بني عدي بن حنيفة المعروف بمسيلمة الكذَّاب، الذي كان قد أبدى شره قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وتوفي عليه الصلاة والسلام ولما يقضِ على شره، حتى قضى عليه وملته ضمن من قضى عليهم من المرتدين في نجْد كمرتدي بني أسد وبني تميم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وانقادت اليمامة للخلافة الراشدة.
ويبدو أن القيادة الإسلامية في المدينة قد رغبت عن زعامة بني حنيفة لليمامة ولو مؤقتًا خشية من ارتداد آخر، إذ ولي عليها خالد بن الوليد- ولا يستبعد أن يكون ذلك بأمر الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما- سمرة بن عمرو العنبري من بني تميم الذين كانوا يشكلون مع بني نمير وباهلة بادية اليمامة آنذاك، وفي هذا إحساس- على ما يبدو- من الخلافة بأن البادية في اليمامة آنذاك أشد اخلاصًا من الحاضرة، وإن كان من المحتمل أيضًا أن يكون الهدف إخضاع البادية كما أخضعت الحاضرة بعد الارتداد، و من تتبع أسماء ولاة اليمامة في الخلافة الراشدة سواء من ولّوا عليها وحدها أو من ضمت إليهم ولايتها بالتبعية يتضح تأكد هذه الحقيقة، بل أن الأمويين أيضًا قد تملكهم الشعور نفسه فلم يتيحوا لبني حنيفة حكم اليمامة، مما جعل بعض الحنفيين ينضمون إلى الخوارج في معارضاتهم للأمويين، إلا أنه يبدو أن قسوة بعض ولاة بني أمية على اليمامة وخاصة إبراهيم بن عربي، وضعف الدولة الأموية في أواخر عهدها قد أتاح لبني حنيفة فرصة ولاية اليمامة بأنفسهم والانفصال عن الدولة الأموية بعدما هزموا واليها.
تاريخ نجد قبل الدعوة
ولما سقطت الخلافة الأموية وقامت على أنقاضها الخلافة العباسية سنة 132هـ/ ٧٤٩م صارت ولاية اليمامة تضم في الغالب إلى والي مكة والمدينة واليمن، إلا أنها كانت ولاية إسمية مما جعل المنطقة تعاني من فراغ قيادي تابع للخلافة سنوات متعددة، بل إن الوالي الأموي على اليمامة ظل يحكمها لفترة من عهد بني العباس، ويبدو أن كثرة تغيير الولاة العباسيين على اليمامة بين فترة وأخرى إضافة إلى وقوع ثورة في المنطقة التي بين اليمامة والبحرين عام١٦٧هـ/٧٨٣ م قام بها بعض العرب، جعل اليمامة تنعزل عن الخلافة فترة، ولعل الخلافة انتهت بعد ذلك إلى ضرورة وضع والٍ خاص لليمامة والبحرين، ولكن سرعان ما زال هذا الاهتمام لتضم اليمامة إلى والٍ يحكم عدة أقاليم منها اليمامة بالتبعية، وأحيانًا كانت تضم إلى والي البصرة أو مكة أو المدينة أو إلى والي البحرين وإن كان هذا قليلًا.
ومن تتبع أخبار اليمامة في العصر العباسي الأول يتبين ما يلي:
– عدم اهتمام الخلفاء العباسيين بشؤون اليمامة مما جعلها تعيش فراغًا قياديًا أدى إلى استقلالها فيما بعد.
– إذا عين والٍ مستقل لليمامة فإن ولايته لها شكلية، وغالبًا ما تضم إلى والي البصرة أو إلى مكة أو والي المدينة، ومن غير المتوقع أن يجعل الوالي مركزه اليمامة بل من المتوقع أن يجعل مركزه إما إحدى المدينتين المقدستين أو البصرة، هذا بالإضافة إلى أن بعض الولاة كان بمجرد تعيينه على اليمامة بالتبعية يسندها إلى والي آخر، وقد يتركها هذا مكتفيًا بالاسم وهو يعيش خارجها مما جعل اليمامة تعيش ظلالًا قائمة من الإهمال أتاح لبني الأخيضر الاستقلال بها كما سيأتي، ولعل الخلفاء العباسيين في تصرفهم هذا حيال هذه المنطقة يدفعهم أحد هذه العوامل أو كلها مجتمعة.
– لم تكن المنطقة تشكل موردًا اقتصاديًا- ولو بسيطًا- للدولة الإسلامية فهي منطقة داخلية لا تقع على بحار حتى تكون منفذًا تجاريًا، ولا يوجد فيها أنهار حتى تزدهر فيها الزراعة.
– بعد المنطقة عن مركز الخلافة قلل من اهتمام الخلافة بها وجعل بالتالي أهالي المنطقة لا يوالون الخلافة سياسيًا.
– لم يكن يوجد بالمنطقة مركز ديني أو علمي يمكن أن يشد إليها الأنظار بخلاف كثير من البلدان الإسلامية آنذاك سواء داخل الجزيرة أو خارجها، فقد كانت الأميه والجهل مسيطران على نجْد، وإذا وجد بها العلماء فإنهم لا يعرفون الخلافة بمزايا منطقتهم.
– يبدو أن الخلافة العباسية لم تكن تخشى من قيام ثوره فيها كما كانت تخشى الدولة الأموية، إذا لم يشر المؤرخون إلى ثورة عدا ما سبق وهي في المنطقة ما بين اليمامة والبحرين، مما جعل الخلافة تطمئن إلى الوضع السياسي فيها، وإنه إن لم يكن موال لها كليًا فعلى الأقل لن يثور عليها.
ولقد كان العلويون يرون أنهم أحق من العباسيين، وأصبحوا من كبار المعارضين للخلافة العباسية محاولين الخروج عليها كلما سمحت الفرصة ممثلة إما في ضعف الدولة، أو إنشغالها بالفتن الداخلية أو بصد عدو خارجي، وقد ساعدهم أن العصر العباسي الثاني(٢٣٢هـ/٨٤٧ م- ٤٤٧هـ /١٠٥٥م) يعتبر عصر انحلال الدولة العباسية، وبداية التحولات السياسية ضدها، وظهور الدول المستقلة داخل جسم الخلافة الإسلامية، وظهور الحركات السياسية والدينية التي بدأت تنخر فيها حتى أفقدتها القدرة على صد الأعداء في الخارج، أو قمع المناوئين في الداخل، وليس هذا مجال التفصيل في محاولات العلويين الخروج عن الدولة العباسية سواء داخل الجزيرة العربية أو خارجها، بل التفصيل في الدول المستقلة عن العباسيين، أو الحركات السياسية أو الدينية، ولكنها إلمامه للدخول إلى العهد الأخضيري في اليمامة، الذي نجم عن نظرة العلويين للعباسيين، وإسقاط العرب من الديوان، وإهمال منطقة اليمامة هذا الإهمال الذي جعلها تعيش فراغًا قياديًا وخاصة في الفترة التي سبقت قيام دولة الأخيضرين العلوية بقليل، إذ بقيت اليمامة بدون والٍ من الخلافة حيث لم تشر المصادر التي بين يدي الآن إلى تسمية والي اليمامة العباسي في هذه الفترة.
استغل محمد الأخيضر بن يوسف من بني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الظروف سواء تلك التي تعيشها منطقة اليمامة خاصة أو التي تعيشها الخلافة العباسية عامة، فاستولى على اليمامة سنة ٢٥٣هـ/٨٦٧م بعد فراره من هزيمته أمام الجيش العباسي متخذًا الخضرمة قاعدة لحكمه الذي توارثه أبناؤه وأحفاده من بعده حتى بعد منتصف القرن الخامس الهجري الموافق منتصف الحادي عشر الميلادي.
والأخيضرين شيعة على مذهب الزيدية ويقولون في نداءهم للصلاة: حي على خير العمل ومحمد وعلي خير البشر، والزيدية وإن كانوا أخف فرق الشيعة تعصبًا وبغضًا لأهل السنة، فإنهم يلتقون مع عامة الشيعة في الولاء السياسي لمبدأ التشيع، ومن هنا كان الأخيضريون على علاقة وطيدة مع القرامطة، ويشير أحد الباحثين إلى أن حصن الأخيضر القريب من كربلاء ربما سمي باسم أحد أحفاد الأخيضر الذي عينه القرامطة أميرًا على الكوفة عام٣١٥هـ /٩٢٨م.
ولئن صحّت هذه الإشارة فإنها تفيد أن للاخيضريين دورًا في نشر دعوة القرامطة في شرق شبه الجزيرة، ويعضده ما يجمع بينهما من التشيع لآل البيت، ومعاداة الدولة العباسية، وما تمخض عنه أو صاحبه من تيارات سياسية ومعتقدات شيعية جعلتهما تنظران إلى سائر الأمة الإسلامية بمنظار الحقد والكراهية.
ويؤكد هذه الحقيقة طبيعية السياسة التي اتبعوها في حكم اليمامة التي اتسمت بالجور والقسوة وسوء السيرة، فقد اضطر قسم كبير من أهل اليمامة إلى مغادرتها تاركين وراءهم أموالهم إلى البصرة بسبب حيف لحقهم من ابن الأخيضر عام ٣١٠هـ/ ٩٢٢م فأصبحت سياسة الأخيضرين عامل طرد للنجديين من بلادهم تمامًا كما يفعل الجدب والقحط، واضطر قسم آخر من النجديين إلى الجلاء عنها بسبب هذه السياسة إلى مصر في مجموعات كثيرة مما جعل اليمامة تفتقر من أهلها نسبيًا طيلة فترة الأخيضرين.
وقد كان للأخيضر محمد سابقة في الجور والاضطهاد قبل أن يقدم اليمامة إذ غلب على مكة والمدينة بعد وفاة أخيه إسماعيل فنال الناس منه عبثًا شديدًا، ومات كثير من أهل المدينة جوعًا بسبب حصاره لها عام ٢٣٥ه/ ٨٦٧م، وانقطعت الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة حتى بعثت الخلافة العباسية جيشًا هزم الأخيضر، فهرب إلى اليمامة في السنة نفسها ليمارس السياسة نفسها التي يبدو أن بعض الثائرين يمارسونها على العامة فيسقطون العنت الذي يلقونه من الخلافة على هؤلاء العامة الذين لا حول لهم ولا قوة.
ومن المعتقد أنه بالإضافة إلى عدم تقبل النجديين لمبادئ الشيعة فقد أعطت هذه السياسة السيئة عاملًا مهمًا في عدم تثبيت أقدام المذهب الشيعي في نجد، ذلك أن النجدي رجل صحراوي ولا يعرف إلا الصراحة والوضوح في الأمور الدينية كما مر، ولا تعرف التقية التي هي من أهم مبادئ الشيعة إليه سبيلًا.
تاريخ نجد قبل الدعوة
ومن المتوقع -وإن لم يشر المؤرخون إلى ذلك- أن بعض النجديين الذين فروا من سياسة الأخيضرين قد عادوا إلى بلادهم بمجرد انتهاء هذا الحكم القاسي بعد منتصف القرن الخامس الهجري، حيث انتهى هذا الحكم بنهاية مجهولة الأسباب لكن ليس منها استيلاء القرامطة على الحجر الأسود كما يشير بعض المؤرخين، وبقيت أقسام كبيرة من تلك التي هربت ولم تعد إلى نجد وخاصة تلك التي هربت إلى شمال افريقيا وبشكل خاص بعض من بني تميم وعامر وهلال حيث بقيت في تلك المناطق إلى اليوم.
على أن هذا الوجود الأخيضري في نجد قد أثمر بقاء بعض الأسر الشريفية التي اندمجت في المجتمع النجدي، والتي ترجع في أصولها إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهم يتركزون في جنوبي نجد، وقد جاوروا بالحلف بني حنيفة ولا يستبعد أن تكون الأسر الشريفية الأخرى المتفرقة في نجد من بقايا الاخضيريين وحافظت على أصلها الشريف، ولم توافق بني الأخيضر في الاعتقاد بالمذهب الشيعي.
وقد كانت الأحساء وشرق الجزيرة في القرن الثالث وأوائل الرابع الهجري تابعة لليمامة من الناحية الإدارية، ويبدو أنها تبعية مذبذبة حسب قوة الحاكم في هاتين المنطقتين، لكن الوضع انعكس منذ أواخر القرن الخامس الهجري أي منذ سقوط الأخيضريين وحتى قيام الدولة السعودية إذ أصبحت اليمامة تابعة للأحساء، وتعرضت للتفكك والانقسام إلى إمارات صغيرة مجزأه، وأصبحت تعاني من عدم استقرار الحكام في بعض بلدانها وتناصرهم فيما بينهم، واعتداء القبائل بعضها على بعض وغزوات القوة المحيطة بالمنطقة.
وفي الوقت الذي بدأت فيه دولة الأخيضريين في الإحتضار، كان الضعف والانهيار قد بدأ يدُّبان في أوصال القرمطية في الأحساء، ولعل هذا من الموافقات التاريخية العجيبة إذ سلمت شبه الجزيرة العربية من شرهما في وقت متقارب، ونتيجة لضعف القرامطة فقد استغله العيونيون -من بني عبد القيس- لينهوا حكم القرامطة للأحساء بعد الاستعانة بالخليفة العباسي القائم بأمر الله والسلطان السلجوقي ملكشاه حيث انتزع العيونيون الأحساء من القرامطة في حدود عام ٤٦٩ هـ/١٠٧٦-١٠٧٧م وأقاموا فيها حكومة تدين بالتبعية للخلافة العباسية في بغداد، وقد بلغ العيونيون من القوة السياسية في شرق شبه الجزيرة ما جعلهم يمدون نفوذهم إلى نجد التي يبدو أن إسمها الحالي بدأ يحل محل الإسم القديم (اليمامة).
وقد استمر حكم العيونيون حتى منتصف القرن السابع تقريبًا حين أثرت فيهم هجمات بني عامر بن عقيل الذين كانوا قد ساعدوا القرامطة أثناء هجوم عبد الله العيوني مع جيش الخلافة عليهم، إضافة إلى الصراعات بين أمراء البيت العيوني نفسه. هذه الصراعات التي يبدو أن بني عامر قد استغلوها بعد أن صاهروهم -بدافع سياسي على ما يبدو- فأخذوا يؤيدون هذا الأمير على حساب الآخر حتى إشترك بعض أمراء بني عامر مع بعض الأمراء العيونيون في اغتيال الحاكم العيوني الذي استعان ابنه بأحد أمراء بني عامر أيضًا، وهكذا بدأ بنو عامر يسيطرون على دفة الحكم العيوني حتى استأثروا به عام ٦٥١هـ /١٢٥٣م، وقد استمروا في حكم البحرين (المنطقة الشرقية) حتى عام٩٣٢هـ/١٥٢٥م وحكم منهم خلال هذه الفترة ثلاث أسر هي :
-العصفوريون: بعد تعرض حكم العيونيين لحالة التمزق كما سلف اجتمع أعيان الأحساء واتفقوا على تسليم السلطة للشيخ عصفور بن راشد بن عميرة زعيم بني عامر على أن يقوموا من جانبهم بخذلان الحاكم العيوني الفضل بن محمد بن مسعود واقناعه بعدم جدوى مقاومة بني عامر، فقبض الشيخ عصفور على الأمير الفضل وطرده من الأحساء، وهكذا تم لبني عامر ممثلين في الشيخ عصفور الاستيلاء على السلطة في الأحساء وكان ذلك على فترات بدأت بالعقد الثاني من القرن السابع الهجري حتى العقد الرابع منه، أو منتصف هذا القرن/ العقد الثاني أو منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تداول عصفور الحكم حتى أوائل القرن الثامن الهجري/ أوائل القرن الرابع عشر الميلادي والذي يعنينا هنا هو امتداد حكمهم إلى نجد.
-الجروانيون: تنتسب هذه الأسرة إلى جروان، ولعله ابن إبراهيم بن عبد الله بن جروان من بني مالك أحد بطون بني عامر بن عقيل من بني عبد القيس، وقد قام حكمهم على أنقاض حكم أقربائهم العصفوريين الذي يبدو أن سعيد بن مغامس الذي يقال أنه من ذرية الشريف رميثة قد استولى عليه لفترة قصيرة من مطلع القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي حتى انتزع الحكم منه جروان المحتمل أنه ابن إبراهيم في عام ٧٠٥هـ/١٣٠٥-١٣٠٦م ثم أعقبه ابنه ناصر فحفيده إبراهيم الذي أخضع حكم الجروانين لحكومة هرمز التي كانت تسيطر بقوة على سواحل الخليج العربي وأنه بقي حاكمًا للأحساء تابعًا للهرمزيين في عام ٨٢٠هـ/١٤١٧م ويبدو أن بني جروان قد انصرفوا إلى النشاط الاقتصادي وأن دفعوا مقابلًا لذلك نقل ولاءهم السياسي وقوتهم العسكرية إلى هذه القوة الجديدة. ولئن كان من الصعب الجزم -في ضوء المصادر المتوفرة- ما إذا كان نفوذ هذه الأسرة قد امتدت إلى بلاد نجد، إلا أن سيطرتها مع عموم بني عامر على طريق قوافل الحج والتجارة من مكة حتى إيران يعني أن لها هيبة وسلطة على قبائل نجد الواقعة على هذا الطريق، وإن كانت هذه السيطرة تحت الحكم الهرمزي.
-الجبريون: ركز بنو عامر اهتمامهم على الناحية التجارية باستغلال طرق القوافل متحينين الفرصة المناسبة لاسترجاع مكانتهم السياسية السابقة، وقد تم لهم أخيرًا على يد الفخذ الثالث وهم بنو جبر الذين استرجعوا سلطة بني عامر على بلاد البحرين في حدود منتصف القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي ويبدو أنهم أنفوا أن يكون بنو عمومتهم الجروانيون عمالًا للهرمزيين.
وقد بدأ حكم هذه الأسرة عندما انتزع سيف بن زامل الأمارة من آخر ولاة بني جروان، ثم تولاها أخوه أجود بن زامل الذي وسع حكمه على حساب مملكة هرمز، والذي لقب برئيس نجد ورأسها مما يؤكد أن نفوذ هذه الأسرة قد امتد إلى نجد، وتشير بعد القصائد الشعبية كذلك إلى امتداد هذه النفوذ إلى نجد الذي استولى عليه راشد بن مغامس بعد ما دب النزاع بين أفراد هذه الأسرة عقب مقتل مقرن بن أجود بن زامل على يد البرتغاليين عام ٩٧٣هـ /١٥٢١م وكان استيلاء راشد على حكم الجبريين عام٩٣٢هـ/١٥٢٥ م لكن لم تطل مدة حكمه، حيث استولى العثمانيون على هذه المنطقة بعد منتصف القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي.
وبعد انضمام الأحساء للعثمانيين، وانضمام الحجاز قبل ذلك، أصبحت نجد محاطة من جميع جبهاتها تقريبًا بمناطق نفوذ عثمانية مما أتاح لإشراف مكة استغلال هذا الوضع لصالحهم فبدأت غزواتهم لنجد؛ ففي سنة ٩٨٦هـ/ ١٥٧٨م غزا الشريف حسن بن أبي نمى بلدة معكال في جمع يزيدون على 50000 بعد أن اخترق نجْدًا، وأقام في معكال فترة أسر فيها جماعة من أهلها، وقتل أخرين، ورجع بغنائم وفيرة بعد أن اتفق معهم على أن يدفعوا له مخصصًا سنويًا، وأمر فيهم من يضبط الأمور لصالحه.
وفي سنة ٩٨٩هـ /١٥٨١م غزا بلدان منطقة الخرج في جيش كثيف، وبرفقته مدافع ففتح هذه البلدان، واتفق معهم على شروط وأموال، وعيّن فيها أمراء من قبله لتنفيذ ما اتفق مع أهلها عليه.
وكانت غزوات الأشراف أحيانًا غير محددة الإتجاه في نجد، لأنه يهمهم أن يغزوا أكبر قدر ممكن من بلدانها، وأحيانًا تكون مقصودة أصلًا إلى بلد معين إما لقطع أهله الميرة عن مكة أو تعرضهم لقوافل الحجاج الذين يشتكون إلى الشريف ذلك، أو الحصول منها على غنائم.
وقد حظت كتب التاريخ النجدي بالحديث عن معاملة الأشراف لهذه البلدان النجدية بالقسوة التي تتمثل أحيانًا في إخلاء بعض البلدان من اهلها ثم هدمها. والتي يبدو أن سببها تأخر هذه البلدان عن دفع المبلغ المفروض عليها أو تأخرها عن جلب التمور والحبوب الذي كانت نجد تصدره إلى مكة منذ العهد الجاهلي.
وإن تعبير المؤرخين النجديين عن معاملة الاشراف لهذه البلدان كقولهم:
“وفعلوا من القبح والفساد ما لا يعلمه الا الله” و” فعلوا الافاعيل” و” فعلوا القبح والفساد” هذا التعبير كما يوحي بأن هناك قسوة وفظاعة في معاملة الأشراف للنجديين بعد الانتصار عليهم، فإنه في الوقت نفسه يعطي تصورًا عن حجم هذه القسوة، كما يعطي تصورًا عن بغض النجدين للأشراف.
وقد كان من أهداف الأشراف في غزواتهم إلى البلدان النجدية أيضًا هو محاولة فرض سيادتهم على بعض البلدان النجدية، كما حدث عام ١٠٥٧هـ/١٦٤٧م حينما سار الشريف زيد بن محسن إلى روضة سدير وقتل رئيسها، وولى عليها رميزان بن غشام وأجلى قسمًا من أهلها ليضمن ولاء البلدة له، وقد اشار ابن بشر إلى تكرار هذا الصنيع من هذا الشريف في منطقه سدير.
وكما كانت غزوات الأشراف تتجه إلى المدن والقرى النجدية فإنها كانت تقصد كذلك القبائل البدوية التي يأتي تعرض قوافل الحجاج من قبلها سببًا رئيسيًا لهذه الغزوات، إضافة إلى ما يهدف إليه الأشراف من الحصول على الغنائم، ورفض البدو تلبية طلبات الشريف المتمثلة في الحصول على كرائم الإبل، وأصائل الخيل، كما أن من أسبابها اعتداء القبائل النجدية على القبائل الشريفية أو الموالية للشريف التي تقطن في المنطقة ما بين نجد والحجاز.
وعلى أي حال فلم تكن هذه الغزوات ضد بادية نجد بكثرة ما يشن على حاضرتها.
ومن متابعة غزوات الأشراف لنجد يتضح أن النصر كان حليف الأشراف نتيجة لضعف بلدان نجد وقلة مواردها وتفرقها، ولرغبة الأشراف الجدية في تقوية قبضتهم على نجد أما بايعاز من الدولة العثمانية أو بحكم مسؤوليتهم المباشرة لتأمين طرق الحج والتجارة، ولعل أوضح معطيات هذه الغزوات أن نجدًا أصبحت في حكم التابع للأشراف، وأن الأشراف قد بسطوا نفوذهم على ما استطاعوا الوصول إليه من الأراضي النجدية متمثلًا ذلك في جباية الأموال وأخذ الهدايا، وفوق هذا وذاك إبعاد الأمراء المحليين وتعيين ممثلين من قبل الاشراف كما سبق، بل تجاوز ذلك إلى أحداث شرافة خاصة بنجد في محاولة منهم لضم نجد إلى مكة كما توحي بذلك عبارة ابن بشر أنه في سنة ١٠٧٨هـ/١٦٦٧م ” كان شريف نجد أحمد الحارث”، وإن كانت هذه الشرافة شكلية، ولم تكن مستقرة سياسيًا كشرافة مكة، بل كان الهدف منها إضفاء نوع من السيادة الشريفية على نجد.
ولم تتعرض نجد لغزوات الأشراف فحسب، بل تعرضت لغزوات قبيلة بني خالد التي أخذت طريقها للزعامة في منطقة الأحساء بعد طرد العثمانيين عام ١٠٨٠ هـ/ ١٦٦٩م.
تاريخ نجد قبل الدعوة
وبعد أن تمكن بنو خالد من فرض سيطرتهم على الأحساء، ومدوا نفوذهم من قطر جنوبًا إلى الكويت وحدود العراق شمالًا، رنوا بأنظارهم إلى منطقه نجد، فبدأوا يشنون عليها الغارات إذ في السنة التي تلت استباب حكمهم ( ١٠٨١هـ- ١٦٧٠م) غزوا نجدًا وتتابعت غزواتهم لها بعد ذلك كما حصل سنة ١٠٣٩هـ/ ١٦٢٨م، وسنة ١٠٩٨هـ/ ١٦٨٦م، وقد نجحت هذه الغزوات وغيرها في مد النفوذ الخالدي إلى أجزاء من منطقة نجد، مما جعله ينافس النفوذ الشريفي الذي تشير الأحداث إلى بدء تضائله بعد بدء الغزوات الخالدية على نجْد ،كما تشير إلى احتكاكه ببني خالد حول منطقة نجد قبل أن يشق بنو خالد طريقهم الزعامة في شرق شبه الجزيرة حينما أرادوا قطع طريق الرجعة على الشريف حسن بن أبي نمى في غزوته على نجد عام ٩٨٩هـ /١٥٨١م التي مر ذكرها، حيث تقابل الجيشان وكانت الدائرة على بني خالد فانهزموا، وغنم منهم الشريف إبلًا وخيلًا، ويبدو أن هذا الاحتكاك هو بداية التصادم بين القوتين الشريفية والخالدية، وأن نتيجته قد دفعت ببني خالد للانتقام ومنافسة الأشراف على نجد التي غدت مسرحًا للغارات الشريفية والخالدية التي كانت تشن في وقت واحد تقريبًا على بادية نجد وحاضرتها على حد سواء.
ونتيجة لانشغال الدولة العثمانية بالحروب البلقانية والفتن الداخلية فقد تلاشَ وجودها تقريبًا في شبه الجزيرة العربية في هذه الفترة، فلم تعد الغزوات الشريفية التي يسندها العثمانيون بالكثرة التي كانت عليه قبل ظهور بني خالد، وهذا ما أعطى الوجود الخالدي في نجد بالإضافة إلى تعاطف أهل نجد النسبي مع بني خالد فرصة توسيع النفوذ.
وقد مكنت هذه الفرصة بني خالد من جعل النجديين يعترفون بأن نفوذ بني خالد هو النفوذ الأقوى في نجد، مما جعلهم يسعون إلى إرضاء زعيمه بالهدايا وتقديم فروض الطاعة والولاء، وقد استغل بنو خالد هذا الاعتراف لاصطفاء بعض أمراء نجد الأقوياء كآل معمر أمراء العيينة -كبرى المدن النجدية آنئذ- وكان تأخر أو امتناع شيوخ القبائل أو إمراء المدن والقرى عن تقديم الهدايا لزعيم بني خالد سببًا في شن غزوات كبيرة تعيد الخالدين محملين بالغنائم، وتجعل النجديين يثوبون إلى ولائهم لبني خالد.
تاريخ نجد قبل الدعوة
ولعل ما يفسر العلاقة الخاصة التي أولاها النجْديون لبني خالد بعكس الأشراف أن بني خالد كانوا يسيطرون على المنفذ التجاري الشرقي لنجد، كما أنه يلتقون معهم في عدم الولاء للدولة العثمانية بالقدر الذي يوليه الأشراف لها، وأن إستعانة الأشراف بالعثمانيين في غزواتهم لنجد جعلتهم لا يجدون من قبائل نجد وقراها إلا العناد والاستبسال في الدفاع.
كما أن هناك عاملًا آخر أمال مشاعر النجديين نحو بني خالد وهو أن الأحساء وشرقي شبه الجزيرة والعراق كان عامل جذب لسكان نجد إذا إنقلبت نجد إلى منطقة طرد لهم في سني الشدة وإنكسار الحال، إضافة إلى وجود عدد من الأسر النجدية ترجع إلى قبيلة بني خالد تفوق عدد الأسر التي ترجع إلى الأشراف، كما أنه يبدو أن حكم الأخيضريين الجائر لنجد جعل سكانه يكرهون حكم من ينتسب إليهم، ويحرصون ألا يكون له موضع قدم في منطقتهم.
وإذا كانت نجد لم تخضع -ولو شكليًا- في تلك الفترة للعثمانيين، فإنها لم تخضع خضوعًا مباشرًا للأشراف، كما أنها لم تشهد استقرارًا أساسيًا داخليًا إبان نفوذ بني خالد بل بقيت الحروب القبلية على أشدها، وظلت النزاعات بين القرى والبلدان النجدية قائمة ممتدة، بل إنها تتطور في بعض الأحيان لتقوم بين أفراد القرية الواحدة، وأبناء الأسرة الواحدة.
وإن قراءة الأحداث التاريخية في هذه الفترة لتكشف لنا عن جوانب مهمة في الحياة السياسية الداخلية في نجد، تلك السياسة التي كان القتل أبرز مظاهرها، والعنف اوضح معاملها.
تاريخ نجد قبل الدعوة
يقول المنقور في تاريخه: “وشاخ أي في سنة ١٠٥٧هـ/١٦٧٤م دوَّاس ابن حمد في العيينة، وقتل عمه ناصر” وفي السنة التي بعدها قتل دوَّاس.
ولم يكن من المستغرب في المجتمع النجدي آنذاك أن يتطاول الأبناء على آبائهم في غياب الوازع الديني والسلطة القوية، وحبًا في الزعامة تحت تأثير بعض القوى النجدية التي تهدف إلى توسيع نفوذها فيما جاورها من البلدان التي تكون مسرحًا لفتن بين الأسر النجدية يتطور إلى مواجهة قتالية هي إنعكاس لتطاحن القوى الكبرى في نجد التي تستغل الخلاف بين الأسر في البلد الواحد، وبين الأسرة الواحدة لتنقل خلافها بين بعضها إلى هذا البلد أو ذاك.
وإن الرغبة في استجلاء الوضع السياسي قبل الدعوة لتفرض علينا أن نضيف بعض الأحداث التي تلقي الضوء على معاناة سكان نجد من الضياع والفرقة اللذين أثمرا التقاتل بين الأخوة والآباء وأبنائهم، فهذا مرخان بن وطبان رئيس بلد الدرعية يقتله خنقًا أخوه وشقيقه إبراهيم سنة ١١٠١هـ/١٦٨٩م، والذي قُتل هو الآخر سنة ١١٠٦هـ /١٦٤٩م، وهذا عثمان بن إبراهيم يقتل ابنه إبراهيم طلبًا للزعامة في بلد القصب وذلك عام ١١٨٣هـ/١٧٢٥م.
وإذا كانت هذه الأحداث وغيرها مما يزخر به تاريخ نجد في هذه الفترة تصور الحياة السياسية والإدارية والأمنية في نجد قبل الدعوة، فإن في قصة المربوعة تصوير دقيق لتطور النزاع بين أفراد الأسرة الواحدة على الزعامة التي تجعلهم يقسمون بلدًا واحدًا وصغيرًا إلى أربعة أقسام، يقول ابن بشر في هذا: “وفيها أي سنة ١١٢٠هـ/ ١٧٠٨م قتل حسين بن مفيز صاحب التويم، البلد المعروف في ناحية سدير قتله ابن عمه فايز، وتولى في التويم، ثم إن أهل حرمة ساروا إلى التويم، وقتلوا فايز المذكور، وجعلوا في البلد فوزان بن مفيز، ثم غدر ناصر بن حمد في فوزان فقتله، فتولى في التويم محمد بن فوزان فتمالأ عليه رجال فقتلوه منهم المفرع وغيره من رؤساء البلد، وهم أربعة رجال فلم يستقم ولاية لأحدهم فقسموا البلد أرباعًا كل وأحد شاخ فيه ربعها، فسموا المربوعة أكثر من سنة، وإنمّا ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها وعلى غيرها من السوابق نعمه الإسلام والسمع والطاعة، ولا نعرف الاشياء الا بأضدادها، فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال وصار فيها أربعة رجال كل منهم يدعى الولاية على ما هو فيه”.
تاريخ نجد قبل الدعوة
ورجوعًا إلى ما تقدم من الأحداث وبالمقارنة مع هذه القصة العجيبة يتبين ما يلي:
-أن قول ابن بشر: ” أكثر من سنة” يبدو أنها تقرب أو تزيد عن العشرين سنة لأن أمير جلاجل قد غزا التويم عام ١١٤٢هـ/ ١٧٢٩م ومعه ابن عم أمير التويم الذي كان قد التجأ إلى جلاجل بعد أن طرده ابن عمه أمير التويم مفيز بن حسين بن معي، هذه الغزوة قد حدثت بعد هذه الغزوة: “وهربت المربوعة الذين تقدم ذكرهم، وهم أربعة أمراء في بلد التويم كل منهم يدعى الرئاسة لنفسه، فبهذه وغيرها يتبين لكل ذي لب نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة”.
-لم تشر هذه القصة ولا ما بعدها من الأحداث إلى نوع العلاقة التي كانت سائدة بين المربوعة، وليس من المستبعد أن تكون سيئة شأنها شأن أكثر العلاقات السائدة في نجد آنذاك.
-أن نجدًا لم يكن فيها أي مطمع اقتصادي أو غيره لأي قوى خارجية وإلا لاستغلت مثل هذه الأحداث للانقضاض على جميع البلاد النجدية، ولعل الله سبحانه وتعالى قد أراد أن تكون أرضًا بكرًا تتقبل أي حركة محلية تدعو للإصلاح وجمع الكلمة، ولهذا فإن المجتمع النجدي قد وجد في (الدولة السعودية) ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خير منقذ له من الضياع السياسي واليأس الذي يسبح به دون أن يعرف أو يفكر كيف يتخلص منه.
تاريخ نجد قبل الدعوة
على أي حال فإن ما سبق من الأحداث لا يعدو أن يكون مثلًا لما تزخر به مصادر تلك الفترة التي هي الأخرى لم ترصد كل ما كانت تعاني منه نجد من حوادث مفجعة ووقائع يشيب من هولها-إن بقي- الولدان، وإن أي مطلع على أحداث هذه الفترة ليفاجئأ بهذه الحقيقة المروعة التي أوضح مظاهرها أن الحياة السياسية والأمنية في نجد قبل الدعوة حياة قلق وذعر وخوف وتحفز وثأر لا ينقطع، تردى بسببها إلى مستوى يزيد على مستوى الجاهلية الأولى سياسيًا على الأقل، وقد قرر الفقهاء النجديون أن ما بين قرى نجد في هذه الفترة مخوف، حيث رتَّبوا على ذلك مجموعة من الأحكام الفقيه منها أن الرجل إذا أمسكه لصوص ليأخذوا متاعه إن كان من بلد معين- لعله بسبب عدائهم لأهله- فحلف بالطلاق ثلاثًا أنه من المدينة الأخرى كاذبًا لأجل الخوف أنه لم تنعقد يمينه، وأنه يجوز اخذ اللقطة في أنحاء نجد في هذه الفترة للحفظ لأن تركها يؤدي إلى تلفها بأخذ الظلمة وقطاع الطرق لها، وخاصة لمن يأمن نفسه عليها منهم، وقرروا كذلك فتاوي أخرى تندرج حول هذا الوضع الأمني في تلك الفترة.
ولقد كان اقوى إمارة ظهرت في نجد في تلك الفترة هي إمارة آل معمر في العيينة وخاصة زمن رئيسها عبد الله بن محمد بن حمد بن معمر الذي تولى في العيينة عام ١٩٠٦هـ/ ١٦٨٤م وتوفى عام ١١٣٨هـ/١٧٢٥م، والذي قال فيه ابن بشر: ” لم يذكر في زمانه ولا قبل زمنه في نجد في الرئاسة وقوة الملك والعدد والعدة والعقارات والأثاث، فسبحان من لا يزول ملكه” وقد زادت العيينة كبرًا في عهده، وظهر فيها من التنظيم العمراني ما لم يوجد في البلدان النجدية الأخرى مما زاد في عدد سكانها بعد أن أخذ يرتادها كثير من أهل نجد، كنتيجة حضارية لبروزها كأكبر مدينة نجدية أنذآك مما جعلها منطقه جذب بما توفره من فرص العمل والتجارة والإكتساب.
والذي يبدو أن عبد الله بن معمر كان ذا حنكة سياسية، وأسلوب قيادي حكيم وقوي مكنه من أن يوسع نفوذ إمارة العيينة بضم بعض البلدان المجاورة إليها، كما أن امتداد إماراته أكثر من أربعين سنة دون أحداث عنف تذكر، في الوقت الذي كان فيه أمراء البلدان لا يبقون مثل هذه المدة أو قريبًا منها، بل أن بعض من سبقوه من أمراء آل معمر لم يستقر لهم الحكم دون ثوره عليهم وتنحيتهم، هذا الامتداد مع هذا الاستقرار أتاحا له فرصة الاهتمام بالجانب الحضاري.
ولعل مما أضفى على حكمه نوعًا من الاستقرار والقوة وجود كبير من أسرة آل مشرف العلمية وعلامة نجد في وقته الشيخ عبدالوهاب بن سليمان بن مشرف الذي تولى قضاء العيينة في فترة حكم هذا الأمير، ومكث فيه فترة ليست بالقصيرة، إلى أن عزله خرفاش حفيد الأمير عبد الله إثر خلاف نشأ بين الشيخ وخرفاش، ولعل من الموافقات الحميدة أن ولادة إمام الدعوة السلفية كانت في العيينة في إمارة هذا الأمير الهمام إذ ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة ١١١٥هـ/ ١٧٠٣م.
تاريخ نجد قبل الدعوة
ومن تتبع تاريخ هذه البلدة في تلك الفترة يستطيع الباحث أن يلمح الدور الكبير الذي كانت تمارسه إمارة العيينة على مختلف البلدان والقرى النجدية وخاصة بلدان وادي حنيفة، هذا الدور الذي جعلها قاعدة في هذا الوادي بل في نجد كلها تقريبًا تخاف وتُرتجى من قبل سائر البلدان النجدية بسبب قوتها السياسية والحضارية، وبسبب اصطفاء بني خالد -أكبر قوة سياسية- محيطة بنجد آنذاك لأمرائها، هذا الاصطفاء الذي حال بين إمارة العيينة واستمرار ممارستها لدورها السابق عن طريق احتضانها للدعوة السلفية التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب إذ لولا الضغط الذي مارسه أمراء بني خالد على عثمان بن معمر في أن يطرد الشيخ محمد من العيينة ويتخلى عن مؤازرة دعوته، لكان من المؤكد أن يكون لهذه الإمارة دورًا أساسيًا وحضاريًا في نجد أكبر مما كانت تمارسه من قبل بأسلوب عشائري تحت ظل سياده ليست نجدية، هذه السيادة التي لو احتضن ابن معمر الدعوة ستحرمه من مخصصاته المالية التي تأتيه من الأحساء، كما تحول بينه وبين الاستفادة من أملاكه الزراعية التي يبلغ ثمن ريعها ستين ألف ريال إضافة إلى منع تجار نجد عامة وتجار العيينة خاصة من الامتياز في منطقة الأحساء أو القطيف، ومن جلب البضائع الخارجية عن طريق سواحلها، ولهذا فإن ابن معمر كما راعى مصالحه الشخصية، فإنه قد آثر المصلحة الاقتصادية العامة الظاهرة للنجديين خاصة، وأن سواحل شرق الجزيرة تكاد تكون المتنفس الوحيد للنجديين في جلب بضائعهم ومؤنهم الخارجية إذا استثنينا سواحل غرب الجزيرة.
ولئن كان ابن معمر قد آثر المنفعة العاجلة على الآجلة فإن هذا بلا شك لحكمة إلهية حتى تنتزع الدرعية المكانة الأولى في نجد، وتحتضن هذه الدعوة لأنها تملك أكبر مقومات النجاح، وهو عدم وجود ولاء سياسي خارجي لها، وإن كانت قد واجهتها عقبات شتى في نشر هذه الدعوة حيث إنها لم تكن تملك نفوذًا في نجد كذلك الذي تملكه العيينة، والله سبحانه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
تاريخ نجد قبل الدعوة
المصدر: الحياة الاجتماعية لدى بادية نجد وأثر الدعوة السلفية فيها منذ القرن العاشر الهجري وحتى سقوط الدرعية 901 – 1233هـ الموافق 1494 – 1818م/ عبدالرحمن بن علي العريني. رسالة ماجستير في التاريخ الحديث، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403/1404هـ.