بقلم: عبدالرحمن بن علي العريني
لقد كانت الزراعة منذ القِدم عماد الاستقرار والنمو الحضري في نَجد، حتى أصبحت في فترة ما قبل الإسلام تشكل مصدرًا رئيسيًا للتمور والقمح لأَغلب بلدان شبه الجزيرة وخاصةً مكة المكرمة التي أراد الله أن يكون موقعها في وادٍ غيرَ ذي زرعٍ، وتُجبَى إليها ثمرات كل شيء، وقد مر بنا في قصة ثمامة بن أثال الحنفي التي سلفت في المدخل التاريخي دور نجد واليمامة الرئيسي في حياة القرشيين الاقتصادية هذا الدور الذي دفع أهل مكة إلى عقد معاهدات اقتصادية يضمنون بموجبها حصول مكة على هذين العنصرين الغذائيين الذين كان يدل بهما أهل اليمامة على أهل البلدان الأخرى حيث يُروى عنهم قولهم ” لا أطيب طعاماً من حنطتنا، ولا أشد حلاوة من تمرنا” كما يُضرب بها المثل بكثرة نخلها وجودته حتى ظن بعض الصحابة لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه أنه يهاجر من مكة إلى أرض فيها نخل، ظنّوا أن المقصود بهذه الرؤيا اليمامة أو هجر إذ كانتا مع المدينة مناطق النخل الرئيسية في شبه الجزيرة العربية.
ومن هنا فقد تأصلت لدى النجديين محبة الزراعة، فقد كانوا يولونها كل عنايتهم مهما اختلفت مكانتهم الاجتماعية، واتجاهاتهم الفكرية؛ فنجد أغلب أمراء البلدان اهتموا بالزراعة وامتهنوها باعتبارها مصدرًا، للثراء وأساسًا لعمارة البلدان النجدية إذ كان أغلبها عبارة عن مورد ماء، أو مزرعة صغيرة، أو مندثرة، أو على شاطئ أحد الوديان حيث يبدأ في حفر أول بئر في موقع يرونه مناسبًا للسكنى ثم ما تلبث الآبار أن تتكاثر، والمنازل أن تزداد حتى يكثر الساكنون ويملك ما حولها شيئاً فشيئاً من قبل أفراد قبيلة أول زارع لها، ومن يحالفهم أو يلتجئ إليهم وقد أكد هذه المحبة للزراعة بعض العلماء النجديين الذين نظروا للزراعة على أنها مصدر خير ونعمة اعتقاداً منهم أن خير الناس عيشاً هم أولئك الذين يملكون زراعة ينفقون منها على أنفسهم وأهليهم وأقاربهم، وفي سبل الخير العام، وأقرب مثل لذلك أن الفقيه المؤرخ الشيخ أحمد المنقور كان مصدر رزقه الوحيد الزراعة، بل تلمح تحمسه ومحبته لها من ذكره أخبار مزرعتيه سمحة والمنقورية في تاريخه، وتتميز الزراعة بالتقاء فئات المجتمع كلها على امتنانها ومحبتها لا فرق في ذلك بين فقيرهم، وغنيهم، وشريفهم، ووضيعهم، فيزاولونها في حرية اجتماعية واحترام للملكية الفردية، وتعاون بين هذه الفئات في سبيل نمو الزراعة وازدهارها، وتحضير أكبر قدر ممكن من الأفراد عن طريقها.
وإذا كان قسمًا من نجد لا يمكن أن يكون فيه استقرار ونمو حضري لافتقاره إلى مصادر المياه الجوفية، فإن قسماً كبيراً منها يمكن أن يكون فيه مثل ذلك الاستقرار والنمو الحضري، فهناك الواحات التي توجد فيها الينابيع والبحيرات الصغيرة في منطقة الخرج والأفلاج التي حظيت بوجود سكاني متقدم، إضافة إلى أن غالبية سكان نجد يتركزون حول الوديان الكبيرة كوادي حنيفة، ووادي الرمة، ووادي الدواسر، ووادي سدير وفروعها فغالبا ما يتواجد الماء في هذه الوديان بالقرب من سطح الأرض التي تتميز تربتها بالخصوبة المنتظمة بسبب الرواسب الطميية لمجاري الوديان بعد سقوط الأمطار، أما بقيه سكان نجد فيتركزون حول موارد المياه التي ليست بعيده عن مستوى سطح الأرض وتتأثر هذه المناطق في وسط نجْد و شمالها.
وإن نظرة في أسلوب بناء البلدان النجدية لتؤكد الدور الأوحد الذي تقوم به الزراعة و المياه في تكثيف الوجود الحضري في نجْد، على أنها في بعض الأحيان تقوم بدور رئيسي في طرد أهل نجد عنها عندما تشح الماء وتتدهور الزراعة، وإذا كان أول ما وصل الينا من أخبار الوجود الحضري في نجد كان عن طسم وجديس كما سلف فان هاتين القبيلتين قد جعلتا من منطقة ما بين الواديين(الوتر) و(العرض) منطقة تركيز حضري عبر فترات التاريخ المتعاقبة حتى الوقت الحاضر، وقد ساعد هاتين القبيلتين أن مياه هذين الواديين كانت غزيرة، مما جعل المنطقة من أخصب مقاطعات نجد وأكثرها مياهًا ونخلًا، واستغلت طسم وجديس هذا الوضع لتفجير العيون، وتشييد الحصون، والإكثار من المنازل، والمساكن حتى أطلق على هذه العناصر الحضرية حضور طسم وجديس جديًا لما كان لهما من دور في تلك الفترة في قيام استقرار حضري.
ويمكن القول أن المنطقة ازدادت تحضرًا بعد مجيء الإسلام عن طريق الزراعة، كذلك حينما أخذ عدد من أمراء المناطق المسلمين الذين تقع منطقة اليمامة ضمن حدودها الإدارية على عاتقهم القيام بحفر عدد من الآبار لتنشيط المنطقة زراعيًا، وتوفير مياه الشرب المتنقلين عبر صحرائها إلى المناطق المجاورة، مما أوجد عدداً لا بأس به من البلدان التي استقطبت قسمًا من البادية حولها للتحضر فيها، علاوة على حفر عدد من الآبار في طرق الحج المارة بنجْد.
ونستطيع أن نأخذ بداية التحضر في النباج (الأسياح الحالية) مثلاً حيًا لهذا الدور الذي قام به هؤلاء الأمراء لتحضير المنطقة، حتى أصبحت في القرون الأولى التي تلت مجيء الإسلام أهم ناحية في القصيم في حركة التحضر ومن أهم نواحي منطقة نجد وأكثرها شهرة وأوفرها عمرانًا، وزاد في هذه الشهرة كونها محطة يفترق منها الحاج المتجه إلى مكة عن المتجه إلى المدينة، وتأتي أهميتها في مجال النمو الحضري كونها مرت بثلاثة أطوار تحضيرية رئيسية عدا الأطوار التي يمكن أن تكون قد مرت بها ولم تصلنا أخبارها، وهي:
الطور الأول: هو الطور المهم في هذا التحضير حيث كان أقوى هذه الأطوار تأثيرًا على سعة حجم المنطقة وازدياد الرقعة السكنية بها، ويمكن أن يطلق عليه فترة عبد الله بن عامر بن كريز، فلئن كان من المتوقع أن تكون المنطقة قد عرفت نموًا عمرانيًا قبل الإسلام فإن النمو الكبير الذي حصل بعد استنباط ابن كريز لعيونها يعتبر أبرز استقبال حضري عرفته المنطقة، حيث أخذت تزداد عمرانيًا بعده وكثر سكانها وقراها، وأطلق عليها سياح ابن عامر ثم بنى عامر ورغم أن ابن عامر حينما استنبطها عندما كان واليًا على البصرة، إلا أنها كانت لدى الجغرافيين المسلمين تعد من أوطان اليمامة.
ومنذ استنباط ابن عامر للنباج والزراعة فيها تزدهر والعمران فيها يزيد بعد أن أتم شق العيون غرس فيها النخيل واستوطنها هو وأولاده فترة من الزمن، وساكنه فيها رهطه من بني كريز حتى سمي النباج “نباج الكريزيين” ثم بدأ العرب حوله ينضمون إليه في السكنى علاوة على مماليك وغلمان ابن تريز وأبنائه وأقربائه والساكنين من أبناء البادية حوله، ومن هنا يمكن اعتبار النباج في تلك الفترة مركزًا رئيسًا من مراكز التوطين والتحضير في نجد وقد أشار إلى طرف من هذا الازدهار الزراعي جرير في إحدى قصائد هجائه:
ليالي تنتاب النباج وتبتني
مراعيها بين الجداول والنخل
وفي موضع آخر قال عن أحد النساء:
ضروط إذا لاقت علوج ابن عامر
وأينع كراث النباج وثومها
وهو في هذا يشير إلى كثرة مماليك بن عامر مما يدل على أن النباج كانت مأهولة من كافة الفئات الاجتماعية، وهو ما يؤكد كثافة الوجود الحضري فيها.
كما ألمح الهمداني وهو من جغرافيي القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي إلى أن النباج قد غدت إقليمًا أو منطقة تتبعها عدة قرى كثيرة بكثرة الماء والزروع والنخيل، مما يدل على تزايد الكثافة السكانية فيها حتى تطلب الأمر إلى أن تطور المزارع إلى قرى يجمعها النباج، وبعد تزايد هذه الكثافة، ونظراً لاتصالها الجغرافي بمنطقة اليمامة عدت من بلدانها، ثم تغير اسمها من نباج بني عامر إلى نباج بني مجيد من قريش كذلك، واستمرت هذه الحركة الزراعية والعمرانية في النباج إلى فترة غير معروف تحديدها، إلا أن مما لا شك فيه أنها بين القرن الرابع أو الخامس الهجريين إلى القرن التاسع أو العاشر.
الطور الثاني: تعرضت النباج للاندثار بعد بني كريز وبني مجيد، ولعل ذلك بعد إغفال الخلافة العباسية في عهدها الثاني لأمور اليمامة، وتعرض المنطقة لهجمات البوادي على طرق الحج باعتبارها محطة مهمة لتلاقي الحاجين حتى وصلت شكاوي الحجيج إلى وإلي العراق – ربما في العهد العثماني – فبعث سلطان مارد ووكل إليه مهمة الحفاظ على الطريق والإقامة بالنباج لوجود عمران سابق ولكونها محطة التلاقي كذلك، وتمدنا المعلومات الشعبية نثرية وشعرية عن سلطان هذا بأنه لما قدم النباج أقام فيها قصرًا منيعًا حتى لا يتعرض لهجمات البدو الذين ما من شك في أن مناعة هذا القصر قد جعلتهم يهابون سلطانًا هذا، وسمى هذا القصر باسم مارد لعله تشبيهًا بقصر مارد الجوف، أو لعل سلطان هذا قد تمرد على واليه فسمي ماردًا.
وبعد أن أخضع البدو والمحيطين به لهيبته أعلن استقلاله النباج، وأقام فيها نهضة عمرانية ليست في مستوى عمران ابن كريز ولكنها أعادت الحياة الحضرية إلى النباج، ومن ضمن مشاريعه العمرانية غير القصر السد الذي وضعه على أحد الوديان ويسمى المسكر، وأمن الحضر فيها إلى حد ما من هجمات الأعراب على طريق الحج وعلى هذه المحطة بالذات، ولقد تواتر لدى أهل الأسياح أن كل نهضة عمرانية أو زراعيه قبل مجيء ابن فهيد هي من بقايا سلطان هذا، وقد رجح العبودي أن فترة سلطان هي الممتدة من القرن الرابع إلى انتهاء القرن الحادي عشر، وأورد على ذلك بعض الأدلة، ثم تعرض السلطان لهجمات البدو مرة أخرى حيث حدثت بينه وبينهم معركة انتهت بمقتله كما تقول الروايات الشعبية، فعاد إليها الاندثار مره ثانية.
الطور الثالث: في غزوة ثويني ابن عبد الله الهاشمي العلوي الأولى على نجد سنة ١٢٠١هجري /١٧٨٦ ميلادي قصد القصيم ونازل التنومة من الأسياح، وكانت هذه الغزوة ذات استعدادات ضخمة استطاع بها الاستيلاء على التنومة، ونزل بأهلها قتلًا ونهبًا حتى قيل إن مجموع ما قتله بلغ مائة وسبعين رجلاً ولم ينجُ منهم إلا الشريد الذي هرب إلى بلدان نجد الأخرى أو إلى المناطق المجاورة، وكان ممن هرب محمد بن فهيد من أجداد أسرة آل فهيد المعروفين في الاسياح، وقد هرب إلى العراق لطلب الرزق، فعمل عند أحد علماء العراق الذي سأله عن بلدته ولما يتحقق منه أنها تقع في مكان النباج القديمة ذكر له ماضيها التليد في مجال الزراعة والعمران وكثرة الخيرات فيها وعمران ابن كريز لها وزين له العودة إليها وعمرانها، فعاد إلى الأسياح فبحث من أكبر عيونها وعقد العزم على حفرها واستعان في ذلك بصديقه مهلهل بن هذال شيخ العمارات من عنزة الذي أمده ببعثة له لتساعد في الحفر وإخراج الماء، ولما تحقق من نجاح فكرته ذهب إلى الدرعية واستقطعها من الإمام عبد العزيز بن محمد، وواصل بعد ذلك حفر بقية العيون، وعادت إليها حياتها ونموها الحضري الذي عرفته عبر الأطوار الثلاثة، ويمكن تحديد تاريخ عمارتها بين رجوع ثويني من غزوته ١٢٠١هجري/١٧٨٦ميلادي، ووفاة الإمام عبدالعزيز سنة ١٢١٨هجري/١٨٠٣ميلادي، لأن إحيائها قد تم بموافقته.
وتصور قصة إعادة عمران بالأسياح عمق الصداقة التي تتم أحيانًا بين ابن البادية والحاضرة في نجد رغم اختلافهما القبلي فهذا ابن هذال شيخ العمارات من عنزة، وشيخ عنزة جميعها، وابن فهيد من الروقة من الأساعدة من عتيبة قد نشأت بينهما صداقة ومراسلة من جراء مجاورة ابن هذال لابن فهيد ومساعدته له في إحياء الأسياح، وهي صداقة تعتبر من الصداقات النادرة ولكنها تتوفر بين البدوي والحضري النجديين كثيراً، ويروى في هذا المجال أن ابن هذال عندما نزل في ملج ونطاع رأى حمامًا يبحث عن قمح يأكل منه فخاطبه بقول يمدح فيه ابن فهيد لكرمه وشجاعته، ومن قبل ومن بعد لصداقته له وحبه إياه، وقال:
ياذا الحمام اللي على ملج وانطاع
بالله عليك انحر إمـام المصلـي
تلفي محمد بأسفل السيح زرّاع
قرم إلى جوه النشامى يهلي
لادبر الوزنة ولا كال بالصاع
متمعني به واحد ما يخلي
ومنذ فترة متقدمة جداً عن قيام الدعوة السلفية، ورغم الإهمال الذي لقته منطقة نجد من الخلافة الإسلامية قامت في نجد حركة تعمير ذات مستوى جيد إذ ما قيس بالظروف الأمنية والسياسية التي تمر بها المنطقة وكانت هذه الحركة ذات شقين: ابتداء تعمير وإعادة تعمير، وكلا هذين الشقين يستند إلى الزراعة والمياه بلا منازع، ومن أبرز ملامحها التأكيد على الناحية القبلية في زيادة الرقعة السكنية.
وتعتبر أشيقر من أوائل البلدان النجدية تحضرًا في العصر الوسيط وأوائل الحديث إن لم تكن أولها، وقد أمدت البلدان النجدية الأخرى فيها بعد بعدد كبير من الأسر التي عمرت هي الأخرى هذه البلدان، كما كان لمركز أشيقر العلمي في تلك الفترة دور رئيسي في الاستقرار والنمو الحضري فيها واثراء البلدان النجدية الأخرى في هذا المجال.
وكان تقدم الحياة الحضرية في أشيقر عامل سبق رئيسي برزت به البلدان الأخرى، واستطاعت به أن تفيدها من تجربتها الحضارية في الإعمار والعلم، حيث إنه منذ نهاية القرن السادس الهجري وبداية السابع وشتى نواحي الحياة الاجتماعية والحضرية تدب فيها، وقد بلغت هذه البلدة من الاتساع الحضري أن ضمت أسرًا متعددة تنتمي إلى قبائل مختلفة وهو ما لا يتوافر إلا لبلدة مجالها الحضري متسعًا، لأن من المعروف نجديًا أن البلدة أول ما تعمر تقتصر على أفراد قبيلة واحدة حتى إذا أخذت في النمو والاتساع ضمت أسرًا أخرى من قبائل ثانية.
وكانت أشيقر في الأصل لأفخاذ من بني تميم، وهم ذوو السيادة والرأي فيها حتى قدم عليهم في فترة تقدمة من اتساعها العمراني أُسر من بني وائل بن عنزة حتى ملكوا بعض الأراضي الزراعية فيها بطريقة الأحياء أو الشراء من الوهبة، ثم ما لبثوا أن كثر اتباعهم من قبيلتهم وتمكنوا في أشيقر حتى أصبحوا هم والوهبة على درجة متقاربة في التعداد البشري، وكثره الأملاك والوجاهة، وهنا أصبحت المسألة متعلقة بالسيادة على البلدة خاصة، وأن الوائليين قد أظهروا من صنوف الكرم للعابر والمقيم ما خشي الوهبة أن يكون هذا ذريعة لاستيلائهم عليها وطرد أهلها الأصليين، أو يصبحوا تابعين بعد أن كانوا متبوعين، أو خشية الاختلاف الذي يحدث بين الأقارب فكيف بمن هم من قبيلتين مختلفتين.
عزم الوهبة على الطلب إلى بني وائل الرحيل من أشيقر، ولعل لذلك أيضا جذروه من الخلافات الجانبية، وكان هذان الحيان قد اتفقا فيما بينهما على قسمة البلد إلى قسمين من ناحيه القيام على المزارع، والخروج للرعي خارج البلد بحيث يتم هذان العملان في آن واحد، وذلك في أوقات الربيع، وقد اوجدوا لذلك نظامًا بحيث يخرج الوهبة في يوم بمواشيهم للرعي والاعتشاب مصطحبين معهم سلاحهم، ويجلس الوائليون في البلد يحفظونها ويسقون النخيل والزروع، وفي اليوم الثاني يحصل العكس، على أنه وقت خروج الوائلين يتم إخراج نسائهم وأولادهم وأموالهم المنقولة وتغلق أبواب الأسوار دونهم، ويكون على الأبراج حراسًا مسلحين حتى إذا رجع بنو وائل من مرعاهم منعوا من الدخول، وطلب إليهم أخذ أموالهم ونسائهم وأولادهم، والبحث عن مكان آخر يستوطنون فيه.
رجع الوائليون آخر النهار ليجدوا إنذار الرحيل أو الحرب أمامهم، حيث منعهم الوهبة من الدخول وقالوا لهم : هذه أموالكم ونساؤكم وأولادكم قد أخرجناها لكم، حيث ليس لنا في شيء منها مطمع، والسبب الوحيد الذي حدانا لهذا العمل هو الخوف من أحداث بيننا قد توقع شرور وحروب، ونحن أهل البلد الأصليون، فارتحلوا عنه إلى أي مكان آخر يرضي منكم وتصاف فيما بيننا، ومن له زرعا فليوكل وكيلًا منا، ونحن نقوم بسقيه حتى يحصد، وأما بيوتكم ونخيلكم فكل منكم يختار له وكيلًا منا يوكله عليهما، فإذا سكنتم في أي بلد فمن أراد القدوم إلينا لبيع عقاره أو نخيله فليفعل، ولن يمنعه عن ذلك أحد، وأكد الوهبة أن ليس لهم طمع في أموالهم في البلد، ولكنهم خافوا من حزازات قد تقع بينهم، أو أن يملك الوائليون البلد، ويرحلوهم عنها أو يغلبوهم على أمرهم، وتكون لبني وائل السيادة، فاتفق الطرفان على ذلك برضى واقتناع ندرَ أن يكون مثله في تاريخ العلاقات الاجتماعية بين حاضره نجد.
وفعلًا تم هذا الاتفاق من دون أن يشر المؤرخون إلى حصول ما يعكر صفوه سواء قبله أو بعده بقليل أو بعد فترة طويلة، فقد أشاروا إلى حدوث معارك بين الأحياء داخل البلد الواحدة حول ما يشبه هذا الوضع بين هذين الحيين، على ما مر ذكر جانب منه في المدخل.
ولقد أتاح اتفاق الوهبة مع الوائلين خروج موجة حضرية من أشيقر، ساهمت في تعمير وإعادة تعمير بعض البلدان النجدية، فبعد خروج الوائلين جميعًا من هذه البلدة، اتجهوا إلى الشمال الشرقي حيث وصلوا بلدة التويم القديمة التي اندثرت بعد ارتحال بني عائذ بن سعيد بن قحطان عنها، وابتدأوا في إعادة تعميرها، ولما تم ذلك سكن قسم من بني وائل في حي منها، وسكن القسم الآخر الحي الثاني، ثم ما لبثت البلدة أن ازدهرت بالعمران، وأصبحت من أهم البلدان في سدير خاصة ونجد عامة، وكان دورها في تنشيط الحركة الحضرية ونموها في نجد كبيرًا، إذا ارتحل منها عدد لا بأس به من الأسر المتحضرة إلى بعض البلدان النجدية، واشتركت هذه الأسر في الحركة العمرانية التي انتشرت في نجد قبل الدعوة السلفية.
وقد بدأ الوائليون في مدهم الحضرى بعد ذلك في بلدة حرمة القريبة من التويم، والتي كانت هي الأخرى من مواطن بني عائذ ثم اندثرت بعد رحيلهم عنها، وقد تم ذلك حينما ارتحل إبراهيم بن حسين الوائلي من التويم إلى حرمة فوجدها موارد مياه وآثار منازل قد تعطلت، فأعاد- مع من ارتحل معه من أسرته- حفر آبارها وغرسها وانتعشت الحركة الزراعية فيها نسبيًا، ثم ارتحل إليه كثير من قرابته واتباعه علاوة على بنيه، وجاورهم عدد من الأسر الأخرى، مما ساعد على توسيع الرقعة الزراعية والسكانية فيها، وجعلها مركزًا من مراكز التحضر في نجد في تلك الفترة، وقد كان ارتحال إبراهيم هذا إليها سنة 770 هجري الموافق 1368 ميلادي.
وقد ساهم بنو وائل في تكثيف الوجود الحضري في منطقة سدير حينما أقطع إبراهيم بين حسين الوائلي سنة 820 هجري/ 1417ميلادي أحد رجالاتُه وهو عبد الله الشمري موضع بلدة المجمعة الحالي، واخذ الوائليون كلما جاءتهم أسرة تريد السكنى حولهم حولوها إلى عبد الله الشمري، حتى تكاثر عدد الأسر في المجمعة أكثر من حرمة، علاوة على القبول والازدهار الذي حظيت به المجمعة أكثر من حرمة، حتى أصبحت قاعدة إقليم سدير منذ فترة تقرب من تاريخ عمارتها، ونافست حرمة التي كانت الطريق الموصل لعمارة المجمعة، وحدثت بين البلدتين مناوشات وحروب وخلافات تلاشت تدريجيًا مع بدء الوعي حتى أصبحت في ذمة التاريخ، ولم يعد لها ذلك الأثر السابق في العلاقات الاجتماعية بينهما، والتي هي بخلافاتها وحروبها لا تعد وأن تكون مثالًا لما يحصل بين بعض البلدان النجدية وبعضها الآخر.
وكانت الاختلافات الجانبية بين بني وائل أنفسهم في التويم هي العامل الرئيسي في خروج أقسام من هذا الفخذ لتعمير بعض البلدان وتنشيط الحركة الحضرية فيها عن طريق الزراعة، ومن هنا فإن هذه الاختلافات كانت فاتحة خير على كثير من البلدان النجدية التي كانت قد اندثرت أو كان فيها عمران ليس على درجة من الاتساع والنمو، لأن هذه الخلافات لم تتطور إلى حروب بل لم تصل إلا إلى ترك بعض الوائليين منازل بعضهم، والضرب في مناكب الأرض النجدية بحثًا عن أمكنة صالحة لمواصلة تحقيق الرغبة العمرانية لدى هذه العشيرة.
ويذكر مؤرخو الحركة العمرانية في نجد في تلك الفترة أن آل أبى رباع بن وائل بن عنزة، وهم أحد قسمي بني وائل الذي قطنوا أحد حيي التويم بعد عمارتها، قد نشب بينهم وبين آل مدلج أبناء عمهم بعض الاختلافات أدت إلى رحيلهم إلى منطقة وادي حنيفة حيث قدموا على ابن معمر رئيس بلد العيينة الذي كان قد استولى على حريملاء، وكانت قد بعثت مزارعًا ولكنها قليلة نتيجة لضعف أهلها، وتمكنت الخلافات فيهم، فخاف ابن معمر أن يستولوا على العيينة، ويبسطوا نفوذهم في المنطقة، فعرض عليهم شراء حريملاء فاشتروها منه قيل بستمائة أحمر، وقيل بصاع من الذهب مقدم ثلثه ومؤخر ثلثيه، ثم بدأوا في توسيع الرقعة الزراعية والسكنية في البلدة، حتى غدت من أبرز المناطق الحضرية في نجد تحضرًا ونموًا، وإن كان قد صاحب ذلك واستتبعه حدوث عدد من الغارات عليها وهي في مرحلة استكمالها العمراني واستقطابها الحضري، وكان شراء آل أبى رباع لها سنة 1045 هجرية/ 1635 ميلادية ومنذ تلك الفترة وهي تمشي بخطى حادة لتتبوأ مركزًا حضريًا مرموقًا في نجد فاق بعض البلدان ونافس بعضها الآخر.
ومن جانب آخر رحلت أسر من الوهبة من أشيقر لتعيد عمارة بعض البلدان النجدية، ولتجعل منها سكنًا خاصًا بها ففي سنة 1101 هجرية/ 1689 ميلادية عمر آل صقيه من الوهبة بلدة القرينة بالقرب من حريملاء، وهي بلدة قديمة تعرف باسم قران، ولكنها تعرضت للخراب نتيجة لهجمات أهل حريملاء عليها، حيث كانت تتبعها أحيانًا وتخرج من ذلك بعض الأحيان، فقد استولى أهل حريملاء على القرية سنة 1095 هجري/ ١٦٨٣ ميلادي في محاولة منهم لإخضاع منطقة الشعيب لسيادتهم، ولكن أهل القرية خرجوا عن هذه السيادة أثر هزيمة حريملاء أمام ابن معمر رئيس العيينة وابن مقرن رئيس الدرعية سنة 1096 هجرية/ 1684 ميلادية، والمهم أنها كانت إلى حد ما تابعه لحريملاء، ولا يبعد أن يكون آل صقيه قد اشتروها من آل أبي رباع من بني وائل أمراء حريملاء الذين آثروا أن يكون الى جوارهم أبناء بلدتهم الأولى(أشيقر) على أن يخضعوا لسيادة حريملاء، وعن طريق الزراعة عمر آل صقيه القرينة حيث غرسوا فيها نخيلًا، مما أعطى البلدة سعة في محيطها الزراعي والسكني، كما عمروا بعض البلدان الأخرى في منطقة الشعيب.
ويبدو أن بعضًا من آل صقيه رحلوا إما من أشقير ابتداء أو بعد ان سكنوا القرينة وتكاثروا فيها، وألقوا عصا الترحال في القصيم، حيث سكنوا بلد الرس ثم نزحوا إلى قفار في منطقة الجبلين، وبقي منهم في الرأس أسر، وتحول من قفار إلى حائل أسر أخرى ولا شك أنهم قد ساهموا في إنعاش حركة التحضر التي كانت تمر بها نجد عبر إقامتهم في هذه البلدان، فيذكر أنهم هم الذين عمرو بعد اندثاره من عمرانه الأول، حتى إذا رحلوا عنه وباعوه على آل ابو الحصين، قدم إليه أناس كثيرون وأسر متعددة من قبائل مختلفة فأصبح منذ فترة متقدمة مركزًا حضاريًا من أبرز المراكز في منطقة القصيم خاصة ونجد عامة.
ولقد كان لبني صقيه التميميين الأشيقريين دور رئيسي في إعمار بعض البلدان القريبة من الرس، كما أن منهم أسرًا قد ساهمت بشكل أو بآخر في إعمار بعض البلدان القصيمية الأخرى، علاوة على اعمارهم لكثير من البلدان النجدية في غير منطقة القصيم بعد رحيلهم من أشيقر، حيث كان لهم دور في حركة التعمير التي كانت تمر بها منطقة الجبلين، كذلك مع بعض الأسر التميمية التي رحلت هي الأخرى من أشيقر، كما كان لهم دور في الحركة العمرانية التي قامت في بعض بلدان المحمل والتي أدت إلى انعاش المنطقة حضريًا بتكثيف وجود الأسر المتحضرة فيها.
ويمكن استنادا لما سبق اعتبار منطقة الوشم بشكل عام وبلدة أشيقر بشكل خاص مصدرًا من المصادر البشرية في نجد التي أمدت المنطقة بزخم وافر من الموجات البشرية المتحضرة عن طريق إثراء البلدان النجدية بعدد وافر من الحضر الذين عمروا بعض البلدان ابتداء أو أعادوا عمرانها القديم الذي اندثر لأسباب متعددة، أو ساهموا في تقدم ونمو الحركة الحضرية في بعض البلدان عن طريق سكانهم فيها، ومشاركه الأسر المتحضرة فيها مزاولة الأعمال الحضرية كالزراعة وما يتعلق بها من أعمال.
ولقد ساهمت أشيقر في اثراء وتقدم الحياة الحضرية في نجد بما أمدت به المنطقة من علماء وقضاه كان لهم دور كبير في بث الوعي الاجتماعي لدى سكان نجد، والذي دفع بعجلة التقدم الحضري إلى الأمام، ولقد كان لدور العلماء الاجتماعي في المنطقة -رغم محدوديته- أثر فعال في التخفيف من سطوة القوى الخارجية على نجد، وكذلك الإصلاح بين البلدان المتنازعة وحث الناس على جني محصولاتهم الزراعية لئلا يستولي عليها المهاجمون على البلدان ولو أدى ذلك إلى الفطر في رمضان، والمهم في هذا أن اثراء أشيقر للحياة العلمية في نجد كان كبيراً فقد زخرت بعدد كبير من العلماء حتى روى أنه قد عرف فيها في وقت واحد أربعون عالماً كلهم يصلحون للقضاء في زمن لم يكن يقدم على القضاء إلا منهم على درجه عالية من العلم والفضل والتقوى والورع.
وإذا كانت أشيقر تعتبر من أهم المراكز الحضرية في نجد إن لم تكن أهمها، فإن ذلك ليس لكبر حجمها العمراني ولا لوفرة سكانها أو سلطتها السياسية في نجد بل لما أمدت به المنطقة من أصول أسر حضرية لا تكاد تخلو منها بلدة نجدية، ولما أثرت به المنطقة كذلك من علماء أوجدوا فيها حركة علمية ذات مستوى جيد تأليفًا وإفتاء وقضاء، ومن هنا فإن العلماء الذين يرجعون إلى أصول أشيقرية يشكلون نسبة كبيرة بين العلماء النجديين قبل الدعوة.
وقد كان للعيينة مركزًا حضريًا مرموقًا في نجد منذ فترة متقدمة إذ كانت من مساكن بني حنيفة كما كانت الزراعة متقدمة فيها ومزدهرة، إلا أنها تعرضت لبعض الدمار نتيجة لضعف نفوذ بني حنيفة حتى إذا كانت سنة 850ه/ 1446م قدم حسن بن طوق من العناقر من بني سعد بني تميم (و هو جد آل معمر) على آل يزيد من بني حنيفة وطلب منهم شراء العيينة، فاشتراها وعمرها هو وأولاده حيث ضاعف من رقعتها الزراعية والسكنية نتيجة لتكاثرهم وقدوم أسر نجدية أخرى عليهم، ثم ما لبثت أن استقطبت بعضاً من أسر أشيقر وخاصة أسرها العلمية، فقد وجد بها من العلماء عددًا وفيرًا بلغ عددهم في زمن وأحد أكثر من ثمانين عالمًا يدرسون العلم في مساجدها، وهذا بلا شك عدد هائل ليس بمقياس تلك الفترة فحسب، وهو دليل تقدم عمراني، ونمو حضري، واستقرار سياسي، وهذا ما جعل هذه المدينة تعتبر المدينة الأولى في نجد قبل الدعوة، واستلزم ذلك استقطابها لعدد كبير من الأفراد والأسر النجدية بما توفره من فرص العمل والتجارة والاكتساب خاصة وأن علاقتها السياسية والاقتصادية كانت كبيرة مع منطقة شرقي شبه الجزيرة العربية، أحد مصادر الامتياز الرئيسية لأهل نجْد، ومن هنا فقد كانت محطة مغادرة، وقدوم لكثير من القوافل التجارية النجدية الذاهبة لشرقي شبه الجزيرة والقادمة منها.
وكذلك تعتبر قفار مركزًا حضاريًا مهمًا أمد منطقة نجْد عامة والقصيم ومنطقة الجبلين خاصة بالكثير من الأسر التميمية وغيرها، وبشكل خاص فإن جميع من في قرى الجبلين تقريبًا من بني تميم رحلوا من قفار، وكثير من الأسر التميمية في منطقة سدير وقد رحلوا من قفار، على أن قفار أمدت بعض البلدان خارج نجد ببعض الأسر التميمية منذ فترة متقدمة، وما من شك أن هذا الدور الحضري لقفار كان في مرحلة قوتها العمرانية، والتي كانت تعتبر فيها أكبر مدينة في منطقة الجبلين، وكان بعض الأسر يتخذ من قفار موطنًا لاستقرار شبه الدائم، ثم ينتقل عنها بعد فترة طويلة، والبعض الآخر يتخذها محطة عبور للبلدان الأخرى، ولا يقيم فيها إلا إقامة محدودة، ومن هنا فإن أغلب الأسر في مناطق نجد المختلفة تمت بصلة عرقية إلى الأسر التميمية في قفار، وبهذا يمكن اعتبارها المركز الحضري الثاني بعد أشيقر إذا استثنينا العيينة التي كان لقيادتها السياسية ودورها القيادي السبب الرئيسي في كونها مركزًا حضاريًا مهمًا، بينما كانت أشيقر وقفار تفتقدان هذا المركز، ومع ذلك فقد كان دورهما في إثراء وتكثيف الوجود الحضري في نجد وخارجه كبيرًا.
ويجدر بالباحث ألا يغفل ثلاثة من المراكز الحضرية المهمة، والتي كان لها دور في جذب الأسر النجدية الحضرية إليها بما تهيئه من وسائل مهمة لهذا التحضر من زراعة أو تجارة، وكذلك فتح مجالات أرحب في حركة التحضر في نجْد بانطلاق بعض من الأسر الحضارية منها إلى بعض البلدان النجدية، وإقامة علاقات حضرية مع المناطق المجاورة، بما كان يتم بينها وبين هذه البلدان من تجارة أو عمل يستلزم بقاء بعض الأسر المهاجرة في البلدان المجاورة.
وهذه المراكز هي حسب الأقدمية والدور الحضري سواء داخل نجد أو خارجه: عنيزة، وبريدة، والقسم الحضري من وادي الدواسر.
أما عنيزة فمنذُ تأسيسها كبلدة مسكونه سنه 630 ه/ 1232م تقريبًا والحياة الحضرية تدب أوصالها والاستقرار والنمو الحضري يضطردان فيها، وكان ابتداء العمران الحضري فيها انقسامها إلى محلات أو قرى صغيرة ما لبثت بعد فترة أن انضمت جميعها وتوحدت تحت اسم عنيزة، وتدل قصه الجزري التي مرت في الفصل الأول أن عنيزة قد توحدت بعد مضي مائتي سنة تقريبًا على تأسيس محلاتها، وأن العمارة قد ازدهرت فيها خلال هذه السنوات، وهي فترة ليست بالطويلة في إعمار القرى والبلدان، وأن جلوس الجزري فيها بعد نهب بني لام له يدل على تأصل فيما عرف عن أهلها من حماية للمستجيرين كما توحي هذه القصة، وبأن وعيًا ثقافيًا كان موجودًا في عنيزة في تلك الفترة المتقدمة ذلك أن الجزري -وقد نظم في عنيزة الدرة في قراءات الثلاثة- لا يستبعد أن يكون أفاد بعضًا من أهل هذه البلدة بما معه من العلم، خاصة وأن كتبه لم يتعرض لها بنو لام، وقد وصلته وهو مقيم في عنيزة وأقام بعد حصوله عليها فترة حتى تمكن من السفر إلى المدينة المنورة.
وقد توالت على عنيزة مراحل الاستقرار والنمو الحضري فازدهرت الزراعة فيها، وتقاطر إليها بعض العلماء الذين أثروا على الحياة العلمية لا فيها فحسب بل في منطقه القصيم ونجْد عامة، وكان لهؤلاء العلماء مساهمات في الحركة العمرانية والزراعية التي تمر بها البلدة بحفر الآبار وغرس النخيل والأشجار وبناء البيوت والمساجد، وهم في هذا يؤكدون على دور العلماء في حركه التحضر التي تمر بها البلدان النجدية والتي تعتمد أساسًا على الزراعة.
ونظرًا لازدهار الزراعة والحياة العلمية فيها فقد أصبحت أكبر مدينه في القصيم إلى فترة قريبة، وقد ساعدها على ذلك انفتاحها التجاري على منطقة شرقي شبه الجزيرة والعراق، حيث كانت محطة من محطات انطلاق القوافل القصيمية وغيرها نحو تلك المناطق للامتياز، مما ساعد على ازدهار الحركة التجارية فيها وجعلها المركز التجاري الرئيسي في المنطقة، واستتبع ذلك رحيل بعض الافراد والأسر منها إلى المناطق المجاورة لتنشيط حركه التجارة مما أوجد علاقات أسرية بين هذه البلدة وأهل تلك المناطق، هذا بالإضافة إلى تغذيتها للبلدان النجْدية بعدد من الأسر، إما في نطاق الحركة العلمية الشاملة في نجْد، أو ضمن التبادل التجاري بين البلدان النجدْية، علاوة على استقطابها لعدد من الأسر العلمية وغير العلمية من بلدان نجْد المختلفة، ولا شك أنها بهذه الأدوار المتعددة ساهمت بشكل رئيسي في إنعاش الحركة الحضارية التي قامت في نجْد منذ فترة متقدمة.
أما بريدة فقد بدأت الحياة الحضرية فيها منذ عمارتها سنه 985 ه/ 1577 م تقريبًا إثر شراء آل أبي عليان لها من آل هذال زعماء عنزة، وكانت أحد مواردهم في القصيم، حيث عمرتها هذه الأسرة وتوافدت عليها أسر متعددة من الأماكن القريبة لها، ورغم تشكيك بعض الباحثين في تاريخ عمارتها وقصته إلا أن هذه الإشارة تبقى الوحيدة التي ورد ذكرها في كتب التاريخ النجْدي المعتبرة، وقد لاقت القبول من كثير من الباحثين.
والمهم أن بريدة اتسع عمرانها في فترة قريبة من تاريخ إنشائها اتساعًا نسبيًا، حتى تطلب الأمر أن يبني لها سور يحميها من هجمات الأعراب حولها، وما لبثت أن نافست عنيزة على المكانة الأولى في القصيم، وكثر المهاجرون إلى بريدة مما رفع من عدد سكانها وأوجد فيها حركة تجارية وحرفية لا بأس بها في فترة متقدمة، وكان لها دور كبير في العلاقات التجارية بين منطقة نجْد والمناطق المجاورة مما جعل تواجدًا حضريًا نجديًا يتشكل في هذه المناطق، علاوة على مساهمة بريدة في استقطاب كثير من الأسر المتحضرة للسكنى فيها من البلدان النجدْية المجاورة لها وغير المجاور، وكذلك مساهمتها في احتضان بعض أسر البادية الراغبة في التحضر، وكل هذا جعل بريدة مركزًا جيدًا في حركة التحضر التي عمت نجد، وهي وإن كانت أقل من عنيزة عمرانًا وحركة تجارية، وسمعة حضرية إلى وقت قريب، فإنها منذ زمن وهي تنافس عنيزة على انتزاع المكانة الأولى في القصيم حتى تبوأتها رغم كونها أصغر من عنيزة، وساعدها على تكبير حجمها اتخاذها قاعده للإقليم منذ عهد الدولة السعودية الأولى.
أما وادي الدواسر فقد كان التحضر فيه متقدماً إذ أن حكم الأخيضريين الذي عانت منه القبائل النجْدية حاضرة و بادية على حد سواء قد اضطر قسمًا من هذه القبائل إلى الهجرة عنها، علاوة على مراحل الجذب المتتالية التي كانت تعاني منها المنطقة، كذلك مما هيأ الفرصة لقدوم قبائل أخرى من اليمن، وتهامة، كالدواسر، وقحطان وغيرها حيث استأثر الدواسر بالمنطقة المنسوبة لهم حاليًا، وهي منطقه مترامية الأطراف شاسعة الأرجاء، قطنتها قبائل في فترة متقدمة لمجيء الإسلام وبعده بزمن كما مر وهي قبائل بني عامر بن صعصعة وأقسام من بني حنيفة وتميم وهزان، وكانت غنية بالوجود الحضري قبل هذه القبائل كذلك كما دلت على ذلك الآثار، علاوة على أن هذه القبائل نفسها لابد أن يكون لها دور في هذا التحضر، ولما جاء الدواسر وكانوا أمة بدوية حضرية في آن واحد -ولا يستبعد ان يكونوا قد تحضروا بعد مجيئهم إلى الوادي- ضاعفوا من المد الحضري للمنطقة بحفر الآبار، وإنشاء المزارع، وغرس النخيل، وساعدهم على ذلك خصب في تربة المنطقة، ووفرة في المياه، وبقي قسم منهم على بداوته يدفعه إلى ذلك طيب في مرعى المنطقة وسعى في رقعتها.
وكان دور الدواسر الرئيسي في حركة التحضر النجدية هو تأسيس وإعادة عمران الكثير من البلدان في المنطقة حتى أصبحت من أكبر المناطق الحضرية في نجد، رغم احتفاظ قسم كبير منهم بطابع البداوة، ويتمثل الدور الثاني في اثرائهم لكثير من البلدان النجْدية بعدد وافر من الأسر الدوسرية التي كان لها أدوار قيادية في ميادين العلم وإمارة البلدان، وعماره البلدان خارج منطقتهم، وتكادا لا تخلو بلده نجدية من وجود أسرة أو أسر دوسرية متحضرة، هذا بالإضافة إلى رحيل قسم من الدواسر الحضر إلى العراق، والشام، وبلدان الخليج العربي، و عمان، والساحل الإيراني من الخليج العربي.
هذه أبرز ملامح التحضر في نجْد في فترة ما قبل الدعوة مع صور منها في بعض البلدان النجْدية، ومن الصعب الإسترسال في ذكر المراكز الحضارية في المنطقة لأن هذا يتطلب تاريخًا لكل بلد نجْدي وهو ما لا يتسع المقام لذكره ويخرج بهذا البحث عن عنوانه، وما ذكر تلك المراكز السابقة إلا أمثله لهذا التحضر في جنوب ووسط وشمال نجد، ويمكن استنادًا لما سبق رصد هذه الملامح فيما يلي:
-وجود مراكز حضرية رئيسية كان لها دور في إثراء المنطقة بالأسر المتحضرة في الميادين المختلفة، وكان لها دور قيادي زاد من حجمها وجعلها مأرزًا للقاصدين لمجالات الحياة المتنوعة، وهذه المراكز هي أشيقر، والعيينة، وبشكل عام منطقه الوشم والعارض.
-وجود مراكز حضرية ذات دور ملحوظ في حركه الحضر، ويمكن اعتبارها من الدرجة الثانية، ومن مناطق الصهر البشري في نجْد بعد رحيل بعض الأسر من منطقه الوشم، وأبرز مثل على ذلك بلدة قفار، والتويم، وبلدان القصيم المتحضرة في تلك الفترة، أو بالأصح منطقه الجبلين وسدير والقصيم.
-وجود مراكز حضارية يمكن اعتبارها من الدرجة الثالثة على اعتبار أن إثرائها للمناطق الأخرى أكثر من إثرائها لمنطقه نجْد، وأبرز مثل على ذلك منطقة وادي الدواسر إذ أن الأسر المتحضرة التي تنتمي إليها خارج نجد أكثر منها في نجد، بصرف النظر عن الكثافة البشرية المتحضرة في المواطن الأصلي لهذه الأسر وهو منطقة الوادي نفسها، على أن هناك تداخلًا بين هذه الدرجات إذ قد تقوم كل درجة منها بالأدوار التي تقوم بها الأخرى، ولكن ليس بالمستوى الذي يبرزها فيها.
-وجود أسر معينة برزت في حركه التحضر تلك، وأبرز مثل على ذلك الكثير من الأسر التي تنتمي إلى بني حنيفة وتميم والدواسر، والتي كان أدوار واضحة في هذه الحركة في ميادين الحياة المتنوعة، على أن ذلك كذلك لا يمنع من بروز أسر تنتمي إلى قبائل أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
وكما سبق القول فإن غالبية أهل نجْد ترجع في أصولها إلى القبائل العربية سواء كانت حضرية أو بدوية من باب أولى لإنغلاق البدو اجتماعيًا وعرقيًا أكثر من الحضر، وتتداخل البداوة والحضارة في بعض القبائل النجدية فتجد الدواسر، وشمر، وعنزة، وحرب، وسبيع تنقسم إلى قسمين بادية وحاضره، على اختلاف فيما بينهما في درجه البداوة والحضارة فيها، وهناك من القبائل من تحضرت منذ أمد بعيد كبني حنيفة، وبني تميم اللتين لا يوجد بين أفخاذهما رحل، على اختلاف فيما بينها في درجه الانتشار في نجد، فبنو حنيفة يكادون يقتصرون في منازلهم على منطقة واديهم، بينما ينتشر بنو تميم في أغلب البلدان النجدية، ومن هنا فإن الأسر الحضرية والبدوية في نجْد من الناحية العرقية يمكن تتبعها برجوعها إلى هذا الأصل أو ذاك، وليس هنا مجال التفصيل في ذكرى الأسر المتحضرة التي تعود إلى الأصول العربية، لأن هذا يدخلنا في متاهات الأنساب ويتطلب استعراضًا لكثير من هذه الأسر، ويعد تكرارًا لما حفلت به كتب الأنساب، ويمكن لمزيد الاطلاع والبحث في هذا، الرجوع إلى كتب الأنساب عامة، وأنساب الأسر المتحضرة في نجد خاصة.
المصدر: الحياة الاجتماعية لدى بادية نجد وأثر الدعوة السلفية فيها منذ القرن العاشر الهجري وحتى سقوط الدرعية 901 – 1233هـ الموافق 1494 – 1818م/ عبدالرحمن بن علي العريني. رسالة ماجستير في التاريخ الحديث، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403/1404هـ.