الكتاب: تاريخ المستبصر
المؤلف: جمال الدين أبو الفتح يوسف بن يعقوب ابن محمد المعروف بابن المجاور الشيباني الدمشقي (ت ٦٩٠هـ)
الصفحات: 247-260
نجد أرض عالية ذات آكام لطاف حرة صافية الجو معتدل موافق لمن سكنها ودخلها. وبنى الأوائل في نجد أربعين قصراً مجتمعة والأصح متقاربة تسمى في العراق قصور نجد، وتسمى عند أهل البلاد السكيت ويقال معاصم، بنى بالحجر والجص ذات إكام ومكنة للربيع بن زهير وعمرو بن معدي كرب وعنتر بن عمرو بن شداد. قال الراوي: كنت ادور مع البدوان في فلاة نجد فنجد بين شجر الأراك آبار طويت بالحجر والجص وقد أدخل في جملة البناء أخشاب الساج، وكنا نجد الكرم حاملاً بالعنب ألوان مختلفة ونخلاً حاملاً بالخلال وشجر التين والخوخ والأجاص ومن جميع الفواكه. ولا شك إنّ هذا الإقليم كان عامرا وفيه بساتين عمرت على تلك الآبار وجميع ذلك موجود في أرض نجد على ما ذكرنا ما دنا منها وما قرب والله عز وجل احكم.
والأصل فيه على ما ذكره الراوي إنّ الهباءة هو غدير طويل عريض عميق ليس فيه قرار لأحد من شدة جريان السيل ينزل من جبال عظيمة عالية. شامخة. وفيه يقول القائل:
يا جبال الشام يا شمخ الذرى … أقواطي بلاك الله بالمحل
ويجري منه إلى وادي إلى الأرض فمن حدة جريانه مع طول المدى حفر الأرض إلى البيوت وكثرت عليه السيول وأملي ماء فرجع بحيرة ما ينقص منه الماء، ولو غرف منه أهل البادية وسقى واستسقى منه الأموال والنعم لمّا نقص منه الماء ولا بان منه مقدار إصبع. وفيه قتل قيس بن زهير بن جذيمة أبن أبي سفيان أولاد عمه لأنّه وصل إليهم فوجدهم يسبحون فركب السيف عليهم وقال: إنّ ماء الهباءة أورثني الذل ورحت ظالما أو مظلوما.
شفيت النفس من حمل بن بدر … وسيفي من حذيفة قد شقاني
فان أكو قد شفيت بهم غليلي … فلم أقطع بهم إلا بناني
وبها قتل عنتر بن ربيعة بن زبيبة أربعين فارساً من وجوه العرب. وهذا الماء مجتمع القبائل والفتن وبهذه الأماكن مسكن عنتر بن زبيبة وقيس بن زهير وعمرو أبن معدي كرب وغيرهم من كبار العرب ورؤساءها. قال الراوي: ونجد في الفلاة نجد حيث لا عمارة ولا سكن قبور بنيت بالآجر والجص ألوف مؤلفة لم يعلم أهل زماننا لمن تلك القبور. وعن محمّد بن أبي حامد قال: حدثني أبو بكر الشاعر إنّه قرأ على قبر:
الموت أخرجني من ديار مملكتي … فالتراب مضطجعي من بعد تتريفي
لله عبد رأى قبري فأحزنه … وهاب من دهره ريب التصاريف
هذي مصير ذوى الدنيا وإنّ جمعوا … فيها وغرهم ريب التساويف
أستغفر الله من عمدي ومن خطأي … وأسأل الله عفواً يوم توقيفي
ومن جملة القصور حجر عبد الله قصر بني على أكمة عالية بالحجر والجص وبالآجر والجص وبعد بالآجر والجص، وبعده قصر عنتر بني بالحجر والجص والآجر والجص بناء وثيقاً محكماً، وبعده بئر العاصمية.
بنيت على أربعة وعشرين عمودا ستة أعمدة مقابل سنة وهي مربعة وطوى ما بعده بالحجر والرخام طول كل حجر منه عشرون ذراعاً بالجص مدرج ينزل إليه بدرج، ومن يوم بنيت إلى هذه الغاية ما نزفت ولا وجد لها قرار. وهو بناء عجيب لب أعمال سلات. وبعده مدينة الهجرة خرب البلد وبقي في أوسطه القصر عامر سكان بأهله وقد حفر في أوسطه بئر يروي منه العرب إبلها وظعنها. ومشرق العاصمية قصر الصبية. والنخل مستدار حول القصور ليسكن بل لذخر متاعهم من السمن والأقط كل ما يصل إليهم سيله. وهو على هذا الوضع والله اعلم.
الحساء واليمامة وتحت منه الأكيك وذات الحرمل، وهذه الأماكن أودية مشرفة والعواهل والعويهل نهن وسهل وجاش وعشرون الرمل ما بين هجران والهجيرة ووضع ما بين الهجيرة ومكة. فإذا كان فضل الغيث وأورى ظعنه وكل يطلب أرضه وفلاته بروايا المحلة. وفيه يقول:
لولا شفاها ذا طرز زمانها … وحمل الروايا كان من جاء يفرس
وقال آخر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم … الجود يفقر والأقدام قتال
وهذه العشرة والأودية إذا مطرت جرت في فلات نجد ويصل أواخرهم إلى البحر المالح.
ذكر الكرم
قال حكيم: الكرم هو دينار عشرون قيراطا منه للعرب وأربعة قراريط منه في سائر الأمم والعالم. والبخل هو دينار وعشرون قيراطا منه في الروم ويقال في الهنود والأصح في المغاربة وأربعة قراريط منه في سائر العالم.
ويقال أوّل من أطعم الكسرة إبراهيم الخليل عليه السلام فهي سنته.ويُقال ثلاثة هم أصحاب الأعراف: أبو طالب لتربيته النبي (وانوشروان لعدله وحاتم لكرمه. ويُقال إنّ بعض العرب شرع في طعم الكسرة وأراد أن يعادل حاتما في زمانه فجاء إليه ضعيف يطلب منه فأعطاه ما سأل فرجع السائل إليه ثانية وثالثة ورابعة وخامسة. فقال المدعي: يا أخي كف فما أنت إلا قليل الوفاء كثير الجفاء هذه لك خامس مر أو سادس مرة. فقال السائل: إنّ حتما بنى قصرا ز فتح به أربعمائة طاقة والله إني كنت ادخل في كل يوم من كل طاقة أربعمائة مرة بلا عاقة وكنت أكون في الأول شبه الساقة. كما قال:
أجاد جميل مرة بعد مرة … وما الجود إلا عادة لجميل
فلما سمع المدعي كلام السائل قال بترك ما كان قد أسس من بنائه المجصص. وكان حاتم طيء إذا قدم الزاد قدم الضيوف وفضل منه شيء لم يرده إلى منزله بل يخليه على حاله. كما قال:
رحانا وخلفنا على الأرض زادنا … وللطير من زاد الكرام نصيب
وإما عرب الفلاة فلا يتغدى أحدهم إلا قرب الظهر ولا يتعشى إلاّ قرب نصف الليل وما يؤخرون الغداء والعشاء إلاّ لأجل الضيف الذي يقدم عليهم. فإذا وصلت قافلة إلى حلة عرب يخرج أهل الحلة إلى القافلة يمسك كل واحد منهم ثلاثة أربعة انفس من أهل القافلة وكذلك من يكون في البيت قليل النهضة ينادي بأعلى صوته: إلي يا وجوه العرب بارك الله فيكم ويشير بيده إلى الإنسان. فإذا حضر عندهم رجل عزيز القدر ينحر عليه رأس إبل وإنّ كان عابر سبيل يذبح عليه شاة وإن كانون جماعة وتكون الضيافة لرجل واحد من بين القوم يقدم صاحب الدور قدام الزور والآلية ويعلم من حضر إنّ الدعوة لذلك الرجل الواحد والباقون طفيله والمستورين يأخذ صاحب الدار رغيف يكسره ثلث أربع كسرة يرميه قدام إنسان يكون الدعوة لذلك الشخص. ويسلق اللحم بالماء ويثرد الخبز ويقلب عليه السمن الكثير فيشرب اللحم بالمرق ويفرق جميع اللحم على الثريد وهذا طبيخ العرب خاصة يسمونها العربية.
نزل جماعة شعراء على رجل من الأعراب في برية قفر فقام الأعرابي يجزر على القوم بعيرا كان عنده فأضافهم تلك الليلة. فلما انبسط القوم من الحديث قال الشعراء للأعرابي: من أي البلاد أنت وكم أنت في رجل وكم معك من المال؟ فقال لهم الأعرابي: أنا رجل غريب نازل هذه الأرض وما لي من العشيرة إلاّ امرأة عجوز وما لي من المال سوى الجمل نحرته عليكم. كما قال:
الجود طبعي ولكن ليس لي مال … وكيف يصنع من بالقوت يحتال
فهناك خطئ إلى أيام ميسرتي … دينا على ولي في الغيب آمال
عن أبي عمرو الدمشقي قال: خرجنا مع أبي عبد الله بن الجلال إلى مكة لم نجد ما نأكل فرفعنا إلى حي في البرية وإذا في الحي أعرابية عندها شاة فقلنا لها بكم هذه الشاة؟ فقالت: بخمسين درهما. قلنا لها: احسني! قالت: خمسة دراهم. قلنا لها: تنهرين. قالت: لا والله ولكن سألتموني الإحسان ولو امكنني لمّا أخذت شيئا. قال أبو عبد الله بن الجلال: ايش معكم؟ قالوا: ستمائة درهم. قال: أعطوها واتركوا الشاة لها! فما سافرنا سفرة أطيب منها والله اعلم.
إذا مسك عربي لصا أو ربيطا أو من يكون له عليه دم فإن أكل الربيط في بيت صاحبه تمرا أو لحما قتله بعد يومين وليلتين وقيل بعد ثلاثة أيام ويقال بعد سبعة أيام. وإنّ أكل خبزا قتله بعد يومين وليلة وقيل يومين وليلتين ويقال بعد سبعة أيام. وإن شرب ماء في بيته بعد يوم واحد ويقال بعد ساعة واحدة. وإن شرب حليبا احرم عليه دمه بعد ثلثة أيام بلياليها. ويقال إنّ السلام يكون في ذمامة إلى أن يغيب كل من صاحبه فان سلم عليه صاحبه بطل حقه وأمن من جميع ما يكره. قيل: ولم ذا؟ قال: لان اللحم يبقى بمعدة الإنسان يومان وليلتين ويبقى الخبز يومان وليلة ويبقى الماء يوما واحدا. والسلام ما يغيب عن النظر فما تقنضي المروة أن تقتل إنسان وخبزك في أمعاءه.
هجا دعبل بن علي الخزاعي بن عبيد الله الخزاعي فلقيه المطلب في طريق فقال له: سر معي إلى منزلي! فذهب به. فلما دخل قال: والله لأقتلنك شر قتلة. فقال له دعبل: لا تقتلني وأنا جائع أشبعني وافعل ما شئت ستجدني إنّ شاء الله من الصابرين. قال له: ما احسن ما طلبت النجاة! إنّ أطعمتك وجبت الحرمة والأمان وإنّ لم أطعمك بخلت أي بخل. فقال دعبل: والله لا ذكرتك بسوء أبداً. فأطلقه وأحسن جائزته. وإذا عض الذي عليه الدم ذيل امرأة أو طفل يحرم ذنب المذنب على صاحبه. فإن هرب الذي عليه الدم إلى بيت إنسان استجار به فأن عفي عنه صاحب البيت الذي جرم بينهم 00000وحكى إنّ قوماً استجاروا بحجر بن مهلهل فأجارهم من الهوى وبني لهم سورا من الحجر والجص ونصب على السور سرادقات من الأدم ولم يخلي الهوى يهب عليهم.
نزل سقاء بئراً بطريق مكة يبرح منه الماء في دلاء لقلته فرحل الحاج على غفلة بقى السقاء مكانه ثلاثة أيام بلياليها، فبعد انقضاء هذه الأيام قدم رجل من وجوه العرب فأدلى دلوه فنظر الأعرابي السقاء في قرار البئر فاستقى وسقى حصانه وشرب واستخرج السقاء من البئر وأردفه وراءه وسار به غير بعيد إلى إنّ وصل خبت قفر ليس به مما خلق الله عز وجل من المخلوقات سوى فرد حي أي بيت شعر له، وفي الحي امرأة واحدة وهي زوجته فقامت المرأة غسلت يد السقاء ورجله بماء حار وأدفأته. ونام السقاء واستراح واستيقظ وجد طبيخا حاراً فتعشى وشبع ونام صاحب البيت وزوجته إلى الصباح. فخرج صاحب البيت اسرج وألجم وركب حصانه وغدا الصيد. وبقى السقاء عند المرأة تهتم بحاله وتدور في أموره إلى إنّ تعافى وصح مما به، فلما دار الدم فيه فتح عينه. وقدم صاحب الحي عند اصفرار الشمس واحصر بين يديه الذي رزقه الله سبحانه من الصيد طبخا أو أكلاً جميعاً. وبقى السقاء على حاله مدة ثلاثة أيام على الرسم والعادة وفي الرابع شبع وتعافى واستراح، فمد عينه إلى المرأة فوجدها صورة عجيبة فطالت يده مع قصر رجله في مثل هذا المكان وراودها عن نفسها مراراً فنهته فلم ينته فقام معها بالكلية وقامت معه بالمنية. فلما أبصرت العفيفة عين الحقيقة قامت إليه وأدارت كتافه وشدته في جوار كلب كان عندها.
ففيهن من تسوى ثمانين بكرة … وفيهن من تسوى عقال بعير
وفيهن من لا بيض الله وجهها … إذا قعدت بين النساء بزير
فلما رجع زوجها نظر الحال غير الحال فقام إليه وحله وقدم إليه ما حضر. وبقي يراودها عن نفسها ثلاثة أيام متواليات وتفعل بن الدست. قال أبن المجاور: ولا شك إنّ هذه المرأة كان طالعها بالسنبلة كما ذكره أبو الريحان محمّد بن أحمد البيروني في كتاب التفهيم في علم التنجيم: إما الحمل والثور والأسد والسنبلة والجدي والحوت ذوات شبق وحرص على النكاح وفي الميزان والقوس شيء من ذلك، وإما في أمور النساء فالثور والأسد والعقرب والدلو دال على عفتهن وحصانتهن والحمل والسرطان والميزان دال على فسادهن والجوزاء والسنبلة والحوت على توسط ذلك فيهن السنبلة اعف. فلما عر الحد عن الحد قال البدوي للسقاء: إلى أين تريد أوصلك؟ قال: إلى الكوفة. فشد على حصانه ونفسه وركب وأردف السقاء وراءه وسار به يومين وليلة إلى أن اشرف على نجد الكوفة. فلما نزل البدوي السقاء عن حصانه ودع كل صاحبه، فحينئذ قال البدوي: بالله عليك إلاّ ما كتمت حالك لي وحدثت بحالك معي اعد الله جزاك خيرا.
كما قال:
لا نضيع فعل الجميل بضعه … إن اصطنعت لذي خطا وذنوب
والشوك لو تسقيه ماء الورد ما … 00000 ويحمل الخرنوب
وقال آخر: ليس الكريم الذي إن زل صاحبه بث الذي كان من أسراره علما
إنّ الكريم الذي تبقى مودته … ويحفظ السر إن صافي وإن جرما
وقال آخر: لا تجلسن مع السفيه فانه بفساده لصلاح أمرك يذهب
ولقد ظفرت ببيت شعر قاله … بعض من الأعراب وهو مهذب
ما ينفع الجرباء قرب صحيحة … منها ولكن الصحيحة تجرب
ولماذا يقال: جراد نجد لا يأكل الحشائش ويشم أطيب الأهوية ويشرب أطيب المياه ويترقى في أطيب الأمكنة ويرجع دواء كل داء؟ ويقال: إنّه يظهر في نجد من أعمال تسمى الدهناء والموضع هو مشرق البحر، وقال آخر: بل هو يخرج من البحر بإذن الله عز وجل قال أبن المجاور: وهو قريب من اليمن والسلوى ينزل على شجر الزيتون بجبال الروم وغيرها. والسلوى هو طير يجيء إلى دمياط على وجه الأرض، وقد تقدم ذكره، ولم يعلم من أين يأتي، وكذلك الجراد يأتي من علم الله عز وجل. فإذا غرس الجراد في الأرض وأقفر يسمى العرجل فإذا بت ودب عل وجه الأرض يسمى الدباء فإذا طار يسمى الجراد. وقال رجل من المفرسين: إنّه كتب على جناحه اسم الله الأعظم فلذلك يقدر على الطيران ويتسلط على أكل الزرع وغيره لأجل جند الله عز وجل سلطه على بلاده وعباده.
نزل الجراد في قرب قبيلة زيد ونزل جراد قرب قبيلة عمرو. فقام أهل قبيلة زيد قالوا لأهل قبيلة عمرو: ها نحن نصيد جراداً احتمى بكم. فلما سمعت قبيلة عمرو ذلك قالت: لا سمع ولا طاعة ولا نمكنكم من صيد جوارنا. فقام القتال بين الفريقين ولا زالوا على القتال إلى أن قتلوا هاتين القبيلتين. وانشد عمرو يقول:
ومنا من أجار جراد نجد … وحرمه على المتصيدينا
مرض زيد مرضاً شديداً إلى أن تعبت الأطباء من علاجه لقلة ملاقاة أدويته. فلما اشرف على الهلاك قال الطبيب لقرابته: أطعموه ما اشتهى وأراد فأنه من الهالكين! وصار المريض يأكل ما اشتهى وأراد إلى بعض الأيام فدار في خاطره الجراد فاشترى وأمعن في الأكل منه، فلما اكثر منه تعافى من مرضه. وشاهده الطبيب فقال: بالله عليك اخبرني بما تناولت من المعاجين أو شربت من الأشربة وما غداؤك من المآكل فقال: الجراد. فقال الطبيب: صدقت لان الجراد يكون قد قعد على حشائش يأكل منها، ولم تصل منفعتها إلى فهم مخلوق إلى الآن ووافق خاصية تلك الحشائش لذاتك برئت وكان الجراد واسطة لعافيتك، والله إني نظرت في جميع كتب الطب على أن اعرف لدائك دواء فما صح لي من ذلك فقلت بترك الحمية لك والله اعلم.
ذكر زواج أهل نجد:
حدثني سليمان بن المنصور قال: إنّ جميع أعمال الجبال وجميع أهل البوادي والبدو وتهامة ونجد يزجرون بنائهم ولم يورثون البنت شيئاً بل إذا كانت البنت باكراً تجهز وتزوج من مال أبيها، وإنّ كانت البنت ذات عيال فقد استراحت عواذلي من عتابي، وكل امرأة في نجد يقل أهلها وعشيرتها يقل خطابها. فإذا عجزت عن مقاساة نعمها ومواليها تركب هودج عالي وتساق نعمها إلى سوق في وعدة ويقوم لها منادٍ ينادي عليها: ألا من يطلب عروساً وذودا؟ فان كانت راجعاً ينادي عليها: ألا ومن يطلب بحبح ودوب، والبحبح هي امرأة ثيب والدواب مالها ونعمها من00000 وأمانات. فكل من يرغب فيها وفي مالها تزوج بها فإذا أبوها أو أخوها أو أبن عمها أو بعض قرابتها يقول للرجل: تزوج بها يا وجه العرب، وإذا قل رغبتك فيها فأنت وكيلها في زواجها زوجها من شئت!! وانشد بعضهم:
عليك بصعبات القياد ولا تقع … برجلك في مدووسة قد أذلت
إنّ أكرمتها قالت: قد أكرمت من قبل ذا … وإنّ هنتها قالت: بل النعلي زلت
وقال آخر:
يا مبشري بابا ويا زوج راجع … أبشرتك الخسران من يوم راجع
وإذا دخلت المرأة على بعلها تجيء كل امرأتين من جيرانها يهنئانها بإتمام سرورها وتأتي معها بجراب ملآن دقيق سميد أو سويق أو زبيب. وحينئذ يحصل للمرأة نحو مائة ظرف ملآن تنفقها مدة أيام واشهر، وإذا كان لأحد النسوة الذين حضروا العرس عرس ردت لهم المرأة الجراب الملآن مثل ما كان، مثل ما كان، وهذه عوائدهم. وتغزل النساء هذه الديار القطن كما يغزل الوبر بالقانون غليظ مرة، وينسج منه شبه سياسات شبه الأكسية الصوف يسمونها الصوف يسمونها ثياب الهجيرة لبس العبيد والإماء والضعيف. ويقال إنّما يوجد في هذه البلد ستون حائكا ودحاح.
وليس يعرف القوم إيمان إلاّ إنّ زيدا يخط خطاً دائرا على وجه الأرض ويقول لعمرو المنكر عليه: أدخله! فإذا دخله يقول له: ارفع رأسك إلى الله! فإذا رفع رأسه نحو السماء قال زيد: كفيت بالله ربا اقصد يا إنسان طريقك بارك الله فيك! وهذه أيمان القوم. وينقسم أموال هذه البلاد على فريقين: الضان وبعض الإبل والخيل، فأما الإبل والضأن يستقنوتهم قوم يقال لهم الشاورية وبعض الإبل والخيل يستقنوتهم الدواشر (الدواسر).
ولم يعرفوا غير هذا المال شيئا آخر يعني مثل المعز والبقر والثيرة والحمير والبغال. والآن ينزل البدوان حول القصور بالبيوت الشعر والخيل والإبل والغنم وهم أهل جود وعطا وكرم يأكلوهم لحم الإبل ومشروبهم الحليب وركوبهم الخيل وبيعهم وشراؤهم الخيل والإبل ولبسهم الخام. وهم أهل قوة وفصاحة ويديرون الفلاة وراء الأموال والنعم لا يودون قطعة ولا يعرفون خراجا س. قال أبن المجاور: وكل بدوي لا يأوى تحت سقف ولا يؤدي قطعة فهو من أولاد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام ليس فيه خلاف ولا شك والله اعلم.
وأما نجد وحدودها فما كان من حدّ اليمامة إلى قرب المدينة راجعا على بادية البصرة حتى يمتد على البحرين إلى البحر فهو حدّ نجد.