بقلم:
تفتخر الأمم بقادتها ورؤسائها، ومن عادة العرب الفخر برجالاتها، بل قد يتسمى بعضهم باسم هذا القائد الفذ فيقال: قوم فلان، وأحياناً يقال: آل فلان، ونحن في هذه المقالة سنتحدث عن قصة رجل ضحى بنفسه عن أهله وقومه وبلده، عن قائد عسكري فذ وسياسي محنك، كان علامة بارزة في زمانه، وسنروي قصة استبساله وتضحيته في عهد الدولة السعودية الأولى.
إنه الإمام عبدالله بن سعود رحمه الله، الذي تزخر حياته بالإنجازات العظيمة، والتضحيات المجيدة، ومع أننا لا نستطيع في هذه العجالة أن نتحدث عنها بالتفصيل، إلا أننا سنذكر ما نستلهم منها روح التضحية، وأن نتعلم منها كيف ضحى قادتنا ورجالهم بأنفسهم من أجل وطنهم، فنفرق بين من ينحني له التاريخ إجلالاً وإعظاماً، وبين من يعيش على هامش الحياة، فهذا هو القدوة لكل من يريد عزة بلاده ونهضتها.
فالانتصارات التي حققتها الدولة السعودية الأولى تمت على أيادي رجال محاربين شجعان، يشتعلون حماسة للدولة الجديدة، مؤمنين إلى حد الاعتقاد بقضيتهم، تحت قادة ملهمين عباقرة، سطروا أعظم الملاحم، وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وستظل هذه الانتصارات والتضحيات التي حدثت في الدولة السعودية الأولى خالدة على مدى الأزمان في قلوب أبناء هذا الوطن العظيم.
ومن يطلع على ما كتبه المؤرخون والعسكريون عن أحداث تلك الفترة، يعلم أن الإمام عبدالله بن سعود، كان من أعظم قادتها، ولا نقول هذا عاطفة؛ ولكن بتحليل للمواقف والأحداث والقرارات الإستراتيجية. فقد أثبت الإمام عبدالله أنه علامة فارقة، منذ أيام صباه، وما تحلى به من صفات الإيمان والتدين والعلم والشجاعة والصبر، وحتى استشهاده في نهاية مسيرته في إستانبول.
وسنحاول في هذه المقالة أن نكشف عن الأحداث التاريخية الهامة التي لها علاقة أو صلة بمعارك الإمام عبدالله بن سعود، لعله يساهم في إحياء التراث التاريخي للدولة السعودية الأولى، فلا يوجد في تاريخ الحروب معارك عربية قامت في تألقها وحتميتها كمعارك الدولة السعودية الأولى في وجه الدولة العثمانية، ولا يوجد قادة بلغوا من الشجاعة والمهارة في ذلك الوقت كقادة الدولة السعودية الأولى، ومن بعدهم أكمل أبنائهم وأحفادهم الأبرار في الدولة السعودية الثانية والثالثة المعارك ضد أتباعهم وأعوانهم ومن نهج منهجهم، فحاولت أن أدلي بدلوي في يوم الوطن الجديد (يوم التأسيس) اعتماداً على المراجع والمصادر التاريخية النجدية، وكذلك العثمانية.
هو الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، وعشيرة المردة من بني حنيفة، ولد في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة، واتصف بالأخلاق الفاضلة، وعرف بالسيرة الحسنة؛ نتيجة لتأثره بالبيئة الدينية المحافظة التي كان يعيش فيها، كما تميز بإقامته للشرائع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كثير الصمت، كثير العطاء والبذل، يقضي حوائج الفقراء والمحتاجين والمساكين، محباً للعلم وللعلماء، كما اتصف بالقوة والشجاعة، وحب التضحية والفداء وخاصةً في الجهاد والقتال، و كان قائداً للقوات السعودية في المعارك ضد الأعداء أثناء حياة والده الإمام سعود بن عبدالعزيز، حيث تمكن من التصدي للكثير من الهجمات العدائية على بلاده، فسطر أروع الانتصارت التي انتهت باستشهاده.
تأسست الدولة السعودية الأولى في 30 جمادى الآخر 1139هـ الموافق 22 فبراير 1727م، وهي بداية تولي الإمام محمد بن سعود الإمارة في الدرعية، وهو بحق يعتبر البداية الحقيقية لقيام الدولة السعودية الأولى، التي تمكنت من توحيد معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية في وحدة سياسية لم يسبق لها مثيل، بل يعتبر نقطة تحول في تاريخ شبه الجزيرة العربية الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما يعتبر من الأحداث الهامة التي غيرت وجه التاريخ، رغم أنه سبقته أحداث مهمة مهدت الطريق لبزوغ فجر هذه الدولة الوليدة، بداية من تأسيس مانع بن ربيعة المريدي الحنفي للدرعية عام 850هـ، وما تلته من أحداث.
و بذلك تأسست الدولة السعودية الأولى، وأصبحت الدرعية القاعدة الأولى لها، وأصبح أميرها يلقب بالإمام، وقضت هذه الإمارة الوليدة أربعاً وتسعين سنة تقريباً، وهي تعمل من أجل توحيد شبه الجزيرة العربية تحت الحكم السعودي، وخاضت حروباً طويلة مع البلدان المجاورة المعارضة للدرعية، من أجل توحيدها ضمن بوتقة الدولة السعودية الأولى.
فاستطاعت تكوين وحدة سياسية لم تشهد شبه الجزيرة العربية مثلها، من الخليج العربي في الشرق، إلى البحر الأحمر في الغرب، ومن باديتي الشام والعراق في الشمال، إلى عمان واليمن في الجنوب، وأصبح أبناء هذه المنطقة بعد أن كانوا قبائل متفرقة، يشعرون بولاء سياسي واحد، ويخضعون لنظام موحد، فأقيمت هيبة النظام حتى في المناطق الصحراوية، وتوقف النزاع بين أبناء القبائل في البادية، وبين أهالي بلدات حواضرها، وساد الأمن ربوع شبه الجزيرة العربية كلها.
كما أحدثت نظاماً اقتصادياً قائماً على أساس الشريعة الإسلامية، فقامت بتنظيم الأمور الاقتصادية والمالية في جميع الأقاليم والمناطق ، فأصبح كل قادر يشارك في دخل الدولة بدفع الزكاة الشرعية، وكل محتاج يجد ما يسد حاجته من بيت المال، فكان التغير الاقتصادي الذي أحدثته الدولة السعودية الأولى بالغ الأثر على معظم سكان شبه الجزيرة العربية.
أما من الجانب الاجتماعي والسياسي، فقد كانت العلاقات قبل قيام الدولة السعودية الأولى علاقات قبلية وإقليمية، تقوم على المناخات بين القبائل، والتحالفات بين البلدات، تغير كل قبيلة على الأخرى، وتهاجم كل بلدة أو أقليم من حولها، فوحدت هذه الدولة المباركة هذا المجتمع تحت راية واحدة.
كما شجعت العلم والعلماء، وأولوا عناية خاصة بتحفيظ القرآن الكريم، وتعلم العقيدة والعلوم الفقهية، وكذلك اللغة العربية، وكان الأئمة يدعمون من يظهر نبوغاً، ومن ذلك مناصرة الإمام محمد بن سعود لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله بعد أن طرد من العيينة، وحمايته، وتقديم كل ما يحتاجه للتعليم وتدريس العقيدة الإسلامية وفق منهج السلف الصالح، حتى غدت الدرعية مركزاً للتربية الدينية والعلمية، وامتدت هذه اليقظة العلمية والحركة العقلية والثقافية إلى جميع مناطق نفوذ الدولة السعودية الأولى.
يجب أن نعلم بدايةً أن الدولة العثمانية لم تكن لتقبل أن تقوم قائمة في مناطق نفوذها لأي قومية غير قوميتها، وبحكم كونهم ليسوا عرباً فقد كانوا يعلمون أن الخطر الأكبر الذي يمكن أن يؤثر على شرعية حكمهم هو ظهور قادة عرب يلتف الناس حولهم، كون العرب هم أهل الإسلام الأوائل والخلافات الإسلامية التي تلتها، والرسول محمد عليه السلام منهم، لذا فقد كانوا يولون على المناطق العربية المزدهرة حكاماً من أبناء جلدتهم، وعلى المناطق الفقيرة حكاماً من العرب الذين يدينون بالولاء لهم، وكانوا يعزلون من ولوهم من العرب إذا وجدوا فيهم بعض آثار القوة تحت ذرائع مختلفة.
لذا كانت هذه الدولة الوليدة (الدولة السعودية الأولى) مصدر قلق لسلاطين هذه الدولة، وحاولوا بشتى الطرق استمالة أئمتها، ولما وجدوا أن مشروعهم أكبر من أن يستطيعوا احتوائه، قرروا محاربته تحت ذرائع مختلفة، بل ضخموا كل حدث وقع ضمن توسعات هذه الدولة، لينشروا أرقاماً غير منطقية لعدد قتلى معاركها، ويروون قصصاً مختلقة عن أحداثها، ووصموا تلك الدولة التي نشرت العقيدة الصحيحة بألقاب تبعدها عن تعاطف العرب والمسلمين، بعد أن انتشرت في عهدها بدع وخرافات لوثت الإسلام بمعتقدات لا أساس لها من الصحة في الدين الإسلامي، وما عليه السلف الصالح، بل وأوعزت لمن تأثروا بفكرها بتأليف الكتب التي تحاربها، وتدعي عليها ماليس فيها.
وحتى تقضي على هذه الدولة الوليدة أوعزت الدولة العثمانية لواليها على مصر محمد علي باشا بأن يجهز جيشاً لمحاربتها، فأرسل حملتين:
الحملة الأولى: كانت بقيادة ابنه طوسون فاحتل الحجاز وتهامة، ثم أمره بالمسير إلى نجد، فأرسل قواته إلى البكيرية، وبعدها رياض الخبرا، ثم زحف طوسون باشا بمن معه من العسكر ونزل الرس. فلما بلغ الإمام سعود بن عبدالعزيز إقبال طوسون باشا، أمر قائد جيوشه إبنه عبدالله بالخروج من الدرعية، فنزل المذنب، ثم رحل ونزل عنيزة، وكان أميرها يومئذ إبراهيم بن حسن بن مشاري بن سعود، وأخذ يشن الغارة تلو الأخرى على البادية التي مع طوسون، ثم رحل عبد الله ونزل الحجناوي الموضع المعروف بين عنيزة والرس يتحين الفرص، وأقام نحو شهرين دون أن يقع بينهم إلّا مناوشات خفيفة، فسئم أولوا الرأي من الطرفين، فخاطبت قيادات جيش عبد الله بأن هذا التردد أضر علينا من الحرب، فإما أن تناجز القوم أو نصالحهم. وخاطب رجال الجيش العثماني وقادته طوسون بمثل ذلك، وقالوا: إن ابن سعود بوسط بلدانه والميرة متوفرة لديه، ونحن في منقطع من العمران، وليس لدينا ما يكفينا مدة طويلة، والإمدادات التي تأتينا يحول بيننا وبينها ابن سعود، فإما أن تناجزه أو تصطَّلح معه، وكان طوسون مثل عبد الله بن سعود ميالاً إلى السلم، فجرت المفاوضات. وتم الصلح بينهما على أن يرفعوا أيديهم عن نجدوأطرافها، وكتبوا اتفاقية بذلك، ورحل طوسون باشا من الرس عائداً إلى الحجاز. فبعث عبدالله بن سعود إثنين من رجاله ذوي الرأي والسداد، وهما: عبد الله بن مجبر بن بنيان والقاضي عبد العزيز بن حمد بن إبراهيم ومعهما وثيقة الصلح لعرضها على محمد علي باشا، فوصلوا مصر وعرضوها على محمد علي باشا فانتظم الصلح، ومن أبرز معارك هذه الحملة:
الحملة الثانية: ما لبث محمد علي باشا أن نقض الصلح مع الدولة السعودية الأولى، فأرسل حملة ثانية بقيادة ابنه إبراهيم باشا، ومعهم بعض المستشارين الفرنسيين، فاحتدمت المعارك بين جيش الدولة السعودية الأولى وجيش محمد علي باشا بقيادة ابنه إبراهيم، واشتدت وطأتها، وفي تلك الأثناء توفي الإمام (سعود بن عبدالعزيز) عام 1229هـ، ليتولى الإمام عبدالله بن سعود الولاية، وحاول حينها إيقاف تقدم القوات العثمانية المصرية باتجاه بلاد نجد، وحصرها في منطقة الحجاز، إلا أن الظروف لم تمكنه من ذلك، حيث كان هناك فارق كبير بين قواته وقوات خصمه من حيث الدعم اللوجستي كالسلاح، والعتاد، والخطط الحربية، والإمكانات المالية، وغيرها من المسائل الإستراتيجية والعسكرية. وقد مكن ذلك إبراهيم باشا من السيطرة على المدن والقرى واحدة تلو الأخرى، ولقد كانت هناك آثار مباشرة على المناطق التي مرت بها هذه الحملة، وما صاحبها من القتل والنهب وتدمير وحرق لجميع الممتلكات، كالمنازل، والأمتعة، والكتب، والزروع، والحيوانات، ومن أبرز هذه المعارك:
إلى أن وصل إبراهيم باشا إلى الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى.
كان وصول إبراهيم باشا بقواته إلى مشارف الدرعية في غرة شهر جمادى الأولى سنة 1233ه، وبعدها ابتدأت وقائع معركة الدرعية، والتي استمرت على جبهات عديدة لستة أشهر تقريباً، وقد استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة اليدوية والنارية والمدافع في عدة وقعات منها:
وفي صبيحة يوم السبت الثالث من شهر ذي القعدة سنة 1233ه، وقع الهجوم العام على الدرعية، فحملوا عساكر إبراهيم باشا على محاجي أهل الدرعية كلها، الجنوبية والشمالية والشرقية والغربية، فأرسل مدفعاً وعسكراً إلى أسفل الدرعية فشغل الناس بالحرب هناك، واشتغل هو بحرب الجهة الشمالية، ليستدرج إليه مقاتلة الجنوب، ثم ثارت الحرب العظيمة من الترك على كل من كان في جهته من أهل المحاجي الجنوبية والشمالية، فلما اشتغل بعضهم ببعض، واشتعلت نار الحرب في السماء وفي الأرض، لم يفأجأ أهل الدرعية إلا والترك قد أتوهم من خلفهم، فانهزموا عن محاجيهم وحمي الوطيس وصار القتال الشديد، فقتل من الفئتين قتلى كثير، منهم إبراهيم بن سعود، وتفرق أهل الدرعية في بلدهم، كل أهل منزلة قصدوا منزلتهم وترسوا في سورها ودورها.
وتفرقت العساكر على أهل الدرعية في منازلهم ودخلوا شيئاً منها، عندها انقضوا أهلها على الترك من كل جانب كأنهم الأسود، وقاتلوا قتالاً يشيب منه المولود، فأظلمت البجيري كأنها الليل، وصريخ السيوف كأنه صهيل الخيل، فأخرجوهم منها صاغرين، وقتلوا من الترك عدة مئات، حتى قال بعض من حضر ذلك: لو حلفت أنني من الموضع الفلاني إلى الموضع الفلاني لم أطأ إلا على رجل مقتول لم أحنث.
واستطاعوا زحزحة القوات العثمانية من مكانها، بعد أن سقط العديد من القتلى، وأرادوا الصلح مع إبراهيم باشا على البلد كلها فأبى إلا على السهل فقط. فعاد القتال بين الجانبين وركز إبراهيم باشا مدافعه على قصر سلوى في الطريف حيث يعتصم الإمام عبدالله بن سعود، فتهدمت جوانب من القصر، ولكن عبدالله أخرج المدافع التي في القصر وجعلها في مسجد الطريف ورماهم بها، فانحاز إليه رجال كثير من أهل البجيري (أبناء وأحفاد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله)، وأهل النواحي، واستمر هذا القتال العنيف نحو يومين، ثم حصل تناقص في أتباع الإمام عبدالله، حيث وقعت الحصون في اليوم الثاني من الهجوم ولم يبق غيرها.
ولما أجهد الحصار الإمام عبدالله وقواته السعودية، طلب أن يقابل إبراهيم باشا؛ رغم معارضة كثير من مستشاريه ورجاله، فقد كانوا يريدون الشهادة دفاعاً عن أرضهم ووطنهم؛ ولكن الإمام عبدالله رأف بهم، ولم يستطع أن تتحمل نفسه الكريمة، وضميره الحي، رؤية أبناء وطنه ورجاله يقتلون في معركة شبه خاسرة، فقابل إبراهيم باشا الذي اشترط أن يسلّم الإمام عبدالله نفسه، فوافق الإمام عبدالله على أن يسلم نفسه فداء لوطنه ورجاله وأهل بلدته؛ وكانت بنود إنهاء الحرب التي اصطلحا عليها:
وهكذا سلم الإمام عبدالله نفسه في اليوم الثامن من ذي القعدة عام 1233هـ، العاشر من سبتمبر عام 1818م، إلا أن إبراهيم باشا لم يوف بوعوده، فقتل عدد كبير من أهل الدرعية بعد سقوطها، ونقل حوالي 400 من أقارب الإمام وأعوانه ومؤيديه للقاهرة، وفي شعبان من عام 1234ه هدم الدرعية كاملة، ونقل مافيها من المصاحف والكتب والمخطوطات للمدينة المنورة، ونهب من الغنائم والأمتعة والأثاث ما الله به عليم.
بعد المصالحة بيومين أمر إبراهيم باشا الإمام عبدالله بن سعود أن يتجهز للسفر للقاهرة، ثم أمر علي رسوان آغا ومن معه من العساكر، وعلي الدوايدار ومن معه من العساكر أن يتجهزوا للسير مع الإمام عبدالله، فرحل الإمام من الدرعية، وذلك تحت حراسة مشددة، فوصل إلى القاهرة يوم الاثنين 17 محرم 1234هـ، وقابل هناك محمد علي باشا.
وبعد يومين من وصوله للقاهرة قام محمد علي باشا بإرساله ومعه كاتبه عبدالعزيز بن سلمان (من السلمان أهل جلاجل)، وخازنه عبدالله السرا إلى السلطان محمود الثاني في الآستانة، وهذا على خلاف ما اتفق الإمام عبدالله عليه مع أبنه إبراهيم باشا.
وصول الإمام عبدالله بن سعود لاستانبول:
نقل الإمام عبد الله بن سعود من مصر في محرم 1234هـ تحت إشراف التتار أغا وعدد من الجنود الترك. ووصلت السفينة إلى استانبول، فدخلت خليج القرن الذهبي، واقتربت من مرفأ يطلق عليه مرفأ (دفتردار) في مكان قريب من مرقد الإمام أبو أيوب الأنصاري على الضفة الغربية للقرن الذهبي، وذلك في يوم الأثنين 15 من صفر 1334هـ الموافق 14 ديسمبر 1818م، وكان الإمام عبد الله بن سعود ومعه كاتبه وخازنه مقيدين بالسلاسل، وعساكر السلطان محمود الثاني حولهم من كل جانب، ثم تم نقلهم إلى سجن بوستانجي باشي. واحتُجزوا لمدة ثلاثة أيام، وفي هذه الأثناء تم التحقيق معهم بشأن الممتلكات التي من أخذت من الحجرة النبوية ومن كربلاء.
في يوم الخميس 19 صفر 1234هـ الموافق 17 ديسمبر 1818م طاف عسكر السلطان محمود الثاني بالإمام عبدالله بن سعود ومعه كاتبه عبدالعزيز بن سلمان وخازنه عبدالله السرا وهم مكبلين بالسلاسل المزدوجة حول أعناقهم في طريقهم من الديوان إلى الباب العالي، ثم تم إحضارهم أمام السلطان الذي كان يشاهد ألعاب رمي الرماح والحراب في قصر توب كابي في استانبول. فأمر بإعدامهم، فتم إرسالهم إلى مقدمة القصر في ساحة ميدان السلطان با يزيد وتم إعدامهم هناك، على يد بوستانجي باشي هليل آغا، وبحضور كبار رجال الدولة العثمانية، وقادة جيشها.
يروي الرحالة روتير في تاريخه”رحلة من تفليس إلى القسطنطنية” مشهد إعدام الإمام عبدالله بن سعود آخر أئمة الدولة السعودية الأولى، فيقول: “لقد رأيت بأم عيني إعدام عبدالله بن سعود، قتلوه عند باب حدائق السراي، وقد وضع الترك رأسه بعد إعدامه، في فوهة مدفع ورموها، وأما جسده فعلقوه على عامود، ووضعوا عليه قطعة بيضاء من القماش كتب عليها الحكم الصادر عليه ليقرأه الناس، وثبتوه بخنجر في جسده”.
لو استعرضنا مجريات التحقيق، فالإعدام في هذه المحاكمة الهزلية – التي لم تستغرق سوى أربعة أيام فقط من تاريخ وصولهم حتى تنفيذ الإعدام- والتي حُوكم فيها الإمام عبدالله بن سعود (رابع أئمة الدولة السعودية الأولى وأخر حكامها) ومعه مرافقيه؛ والتي كانت عن تهمة لا علاقة لهم بها، لتحققنا أنها لم تكن سوى انتقاماً واستشفاءاً.
فقد سلم الإمام نفسه بشروط واضحة، ومنها أنه ينقل للقاهرة وليس الإستانة، ولكنهم تعاملوا معه بصورة تفتقر لأبسط المعايير القانونية والضمانات القضائية، وذلك من خلال التحقيق معهم وتعذيبهم وقتلهم والتمثيل بأجسادهم في مشهد كان بعيداً كل البعد عن أدنى معايير القوانين والأعراف العسكرية الشريفة في التعامل مع الأسرى، فانتهكت بذلك كل الضمانات القضائية التي كفلتها الشريعة الإسلامية، ومعظم النظم الوضعية للمتهم، فضلاً عن أن التهمة الذي ثبتت إدانته عليها من قبل هذه المحاكمة غير المستوفية لكافة الضمانات القضائية.
نسأل الله العزيز القدير أن يرحم الشهيد الإمام عبدالله بن سعود ومرافقيه، وأن يسكنهم فسيح جناته، وجميع من راح ضحية هاتان الحملتان، وجميع موتى المسلمين.
المصدر: نشرت هذه المقالة في جريدة الجزيرة العدد 17957، الصادر يوم الأثنين 11 شعبان 1443هـ، الموافق 14 يناير 2022م، تحت عنوان: “الشهيد الإمام عبدالله بن سعود”.
حقوق الملكية: الصور المرفقة بالمقال (سواء التي من تصميم الموقع أو تعديلها وتلوينها) هي من إصدارات الموقع، لذا نأمل الإشارة إلى ذلك في حال استخدامها.